النسخة الإنجليزية
YETTO
الفصل الأول
رأى الأطفالَ قادِمين نحوَه. فتظاهرَ و كأنه لم يَرَهم. استقى الماءَ من البئر وسقى بغلَه. ثم شرب مباشرة من الدَّلو وغسَل وجهَه. وسُرعان ما وقف الأطفال في نصف دائرة أمامه. التقى نظرُه بنظراتهم، وارتسمَت على وجهِه ابتسامةٌ عريضة، ثم قال فجأة، وهو يُلقي نظرةً خاطفةً على بغلِه:
- هل أنتم من أزلو؟
تَعَجَّب الأطفال من حوله، فعاد يَسألهم:
- أنا جائع. قولوا لي: هل أنتم من أزلو؟
نظَر الأطفال إلى بعضهم البعض وتبادلوا الابتسامات. ثم عاد صوتُ الرجل:
- لمَن هذا الكرْم؟
قالها وهو يُدخِل يده عميقًا في جيبِه، وأخرج منه حفنة من النقود. أشرقت وجوه الأطفال عند رُؤية النقود. لاحظ الرجلُ ذلك، فحَرَّك النقودَ في كَفِّه حتى صار لها رَنين، ثم قال:
- مَن مِنكم يستطيع أن يُحضِر لي عِنباً من ذاك الكرْم؟ أنا جائع!
قال أحد الأطفال:
- أَخبِرنا من أنت وسنحضر لك العنب.
- أنا رجل جائع!
انفجرَ الأطفالُ ضاحكين بينما واصَلَ الرجل حديثَه:
- أبي فَمي وأُمي مَعدتي.
قال طفل آخر، وكانت عيناه لا تزالان مُثبَتَتين على النقود:
- وماذا عن أطفالك؟
- كل أطفال أزلو هم أطفالي! لذلك أُعطيكم هذه النقود! تفضلوا!
مَدَّ الأطفال أيديهم بينما وضع الرجل قطعة نقدية في كَف كل واحد منهم. ثم قال:
- و الآن، لِنجلسْ!
وجلس جميع الأطفال دُفعةً واحدة كما لَو أنَّ آباءهم هم من أمروهم بذلك. و قال الرجل:
- قلت لكم إني جائع، و لم تُحضروا لي عنباً، لذا سأبدأُ في أَكل أيديكم.
ضحك الأطفال مرة أخرى، لكن أحدَهم قام وانطلق نحو الكرم. وبعد لحظة عاد وهو يحمل في كِلتا يديه عنقوداً جميلاً من العنب. و قال للرجل: تفضل! فانْتزع الرجلُ العنبَ وبدأ يأكل بِنَهَمٍ. ثم قال وهو يَمضغ:
لقد ذهبت إلى أماكنَ كثيرة، ولكني عندما رأيتُ أزلو، قلت لنفسي إنه لا يوجد مكان أجمل تحت الشمس. فقال أحد الأطفال بصوت مُتَردّد:
- هل أنت من أزلو؟
فأسرع الرجلُ بالجواب وقد خالَجه احمِرار شديد في وجهه:
- ما رأيكم أنتم؟
قال الطفل الذي سأله:
- أنا لَم أرَك قط. لكنك تتحدثُ مِثلنا!
- أنا أتحدث مِثلَكم، لكن مَلابسي ليست كَمَلابِسكم أليس كذلك؟ أنتم ترتدون جلابيب بيضا، وأنا أرتدي عِمامة صفراء وقميصاً أزرق سماوياً ونعلَين بيضاوين.
قال طفل آخر:
- نعم، ولدَيك لحيةُ كثيفة وشاربُكَ محلوق.
و قال طفل ثالث:
- وأنت رجلٌ جائع.
- لذا أبدو غريبًا، أليس كذلك؟
قالها الرجل وهو يُسَلِّم ما تبقى من العنب إلى أحد الأطفال. هؤلاء الأطفال أَومَأُوا بِرؤوسهم، وضحِك بعضهم ضحكة مكتومة. أمّا الرجل، الذي كانت عيناه تَتنقِلان من وجه إلى وجه، وكأنه يبحثُ عن شيء ما، فإنه حَدَّق فجأة في وجه أحد الأطفال ثُمَّ سأله:
- ما اسمك يا بُنَي؟
- اسمي احْساين.
قالها الطفل بخجل. فعاد الرجل ليسأله:
- مَن أبوك؟
- والدي هو احْماد أمگون.
اندَهش الرجل. بَدا وكأنه عثَر على الشيء الذي كان يبحث عنه. و ظهرت عليه ٱثارُ المفاجإة. و الأطفال أيضا استغربوا؛ لكنهم لَم يقولوا شيئا. اكتَفوا بالنظر إلى الرجل وهو يَتنَّهد فجأةً ويقول بصوت مُرتجف:
- قُل لي يا احْساين، هل تَعرفني؟
- لا، سيدي.
- هل لديك أي إخوة أو أخوات؟
- نعم، سيدي.
- أَخبِرني بأسمائهم.
- أحمد، إبراهيم، حسن، يَزّة وفاطمة.
- لَم تَنْس أحدا؟
أطلق الأطفال ضحكة خجولة، لكن احْساين قال بعد ذلك:
- لي أيضًا أخٌ آخرُ، غائب.
- إلى أين ذهب؟
- لا أعرف. لم أره قط..
- ما اسمه؟
- مُحَمَّادْ .
و كأن الدنيا تَوقفت للحظة، استنارَ وجهُ الرجل بابتسامة عريضة. و زاد استغرابُ الأطفال و جحَضت أعيُنهم من المفاجأة لَمّا قال الرجل و عيناه تكادان تدمعان:
- أنا أخوك مُحماد!
لكن احْساين بَدا غيرَ مُصدِّق. قال وقد احمرّ وجهُه خجلًا:
- حَقًّا؟ أخي محماد له لَقب. فهل لك لقب؟
- نعم. لَقبي "الفيلسوف".
ما إن نَطق مُحَمَّادْ بتلك الكلمات حتى نهض احْساين وانطلق راكضًا في اتجاه منزل أهله، صارِخا:
- الفيلسوف عاد! الفيلسوف عاد!
وفي لَمحِ البصر، خرج أهل القرية جميعًا - رجالًا ونساءً وأطفالًا - أَتَوا من كل البيوت، من خلْف أقرب المنازل وأبعدها، ومعهم الزغاريدُ و صيحاتُ الفرح و الترحاب، واندفعوا نحوه، والأطفال الصغار يهتفون: "عاد الفيلسوف! عاد الفيلسوف!"
حتى مُحَمَّادْ أَجهَش بالبكاء وهو يُعانق أهله و أقاربه الباكين واحدا تِلوَ الآخر. حتى إنه لَم يتمالك نفسه فأطلق العِنان لدموعه عندما ضَمَّه والده الباكي بين ذراعيه.
وها هُم أهلُ القرية يَقودونَه إلى بَيتِ أبيه كما تُقادُ العروسُ إلى بيت زوجها. كان منزلُ والده أكبرَ من مسجد البلدة، لكنه لم يَكن يَتَّسع لجميع من جاءوا ليهنئوه بعودة مُحَمَّادْ.
ثم جلس مُحَمَّادْ بين أَهَمِّ رجال القرية في أجمل غرفة في منزل والده. و ها هو يُجيب على سؤال تِلوَ الآخر حتى قبل تَقديم الشاي.
- أين كنت طِوال هذا الوقت؟
- كنتُ في كل مكان ولا مكان.
فقال المتحدثُ الأول وهو ينظرُ حول القاعة المزدحمة:
- أَلَم أَكُن قد أَخبَرتكم عنه؟ هذا الرجل لا يستطيع إعطاءَ إجابات واضحة. ولهذا السبب أطلَق عليه الشيخ حيمي لقبَ "الفيلسوف". إنه فيلسوفٌ حقًا، أليس كذلك؟ ولكن-
التفَت إلى مُحَمَّادْ وقال :
- قُل لنا، أيها الفيلسوف، ماذا أحضرتَ معك بعد كل هذه السنوات من الغياب؟
- كلَّ شيء ولا شيء.
قالها مُحَمَّادْ دون أي نَبرةٍ من الحقد في صوته. لكن السائل عاد ليسألَه وسط ضَحِك مَن حولَه من الرجال:
- نحن نَفهَم "لا شيء"، ولكن ماذا تقصد بـ "كل شيء"؟
- أستطيعُ أن أُرِيَك "لا شيء" بالسَّماح لك بالنظر في جيوبي وحقيبتي، لأنك لن تَجد شيئًا في جيوبي أو في حقيبتي؛ ولكن لا يُمكنِني أن أُرِيَك "كلَّ شيء"، لأن كل شيءٍ في عقلي، و عقلي في رأسي، وليس إلا رأسٌ واحدٌ، لذلك لا يُمكنني قَطع رأسي أو كَسرهُ لمُجرد أن أُظهِر لك أن "كل شيء" موجودٌ في رأسي بالفعل!
قال متحدثٌ آخر:
- أرجوك! أرجوك! دَعه وشأنَه! إنه حُر. إِن كان يَملك كلَّ شيء، فهذا ما نتمناه له؛ و إذا كان لا يَملكُ شيئًا، فهذه مشكلته هو. الآن لِنتركْ هذا الموضوع!
ألقى مُحَمَّادْ نظرةً على والده وتَنَهد. عَرف مِن وجه والده العابس أنه لم يكن سعيدًا. لذلك أطرق رأسه و دعا ربَّه في نفسه. و ماهي إلا لحظات حتى بدأت الأطباق الأولى توضع على الطاولات المنخفضة عند أقدام الرجال. نظر مُحَمَّادْ إلى الطبق الذي أمامه وتساءل متى أكل مِثل هذا الطعام آخرَ مَرة: دجاج مع أرز وزبيب. جلس بالقرب من الطاولة وبدأ يأكل في صمت، محاولاً جاهدًا ألا يُعلِّق على ما يقوله الرجال من حوله.
ومع حُلول المساء، غادر آخر الزوار، فَوجد مُحَمَّادْ نفسه جالسًا بمفرده في هذه الغرفة الكبيرة. لم يستطع مغادرة الغرفة. شعر بالخجل. كان يَعلم أن والدته وأختيه وبعض الأطفال الصغار الذين على الأرجح كانوا أبناءَ وبنات إخوته و أخواته - كانوا في الغُرف المُجاورة. كان يسمع أصواتهم. لكنه لم يستطع الذهاب والجلوس معهم. كان يخشى الأسئلة المُحرجة. لذلك بَقي مكانَه وعيناه مُثبَتتان على الباب مُنتظرًا لِيَرى ما إذا كان أحدٌ سيأتي إليه ويجلس معه ويتحدث معه. ظل في مكانِه ينتظر، بينما استمر ضجيجُ النساء وأطفالهن دون انقطاع في الغُرفِ المحيطة. وفجأة ظهرت شابة في العشرين من عمرها على الباب وألقت عليه نظرة توحي بالدهشة ثم اختفت. كانت نظرةً كالصاعقة ارتجف لها مُحَمَّادْ. وبعد لحظة دخلت أخته يَزَّة مُبتسمة وقالت:
- مُحَمَّادْ، لماذا تجلس هنا وحدَك؟ تعال! تعال واجلس معنا!
لكن مُحَمَّادْ كان أضعفَ من أن يَقفَ على قدميه. فَتح شفتَيه وكأنه يُريد أن يتكلم، لكنه ظل صامتًا. فعادت أخته تسأله:
- ما بِكَ يا هذا؟
فقال مُتَلعثِماً:
- أنا... أنا... أنا آسف، امرأةٌ شابة لَم تكن تعلمُ بِوجودي هنا، فنظرت ورأتني. أنا آسف.
قالت أخته و هي تضحك:
- لا تقلق! ما تلك إلا يَطّو، ابنة خالتي خديجة. إنها أخبرتني. لا تقلق بشأن ذلك. تعال! تعال واجلس معنا!
نهض مُحَمَّادْ بصعوبة وتبِع أخته خارجَ الغرفة. أخذته إلى غرفة أصغر بكثير، وكان عليها أن تَقوده مِثل رجل أعمى عندما تَعثَّر على عتبة الباب. ضحِكت والدتُه وأخواته وثلاث نِسوةٍ أُخريات بهدوء عندما رأين عينَيه مُثبَتتين على الفتاة ذات الثوب البرتقالي والأخضر. لَم يستطع أن يرفع عينيه عنها عندما دعته أمه ليجلس بجانبها. وبينما هو يجلس قالت له أمه:
- ظَننتُ أنكَ لن تعود أبدًا. كنتَ في الرابعة والعشرين من عمرك فقط عندما تركتَنا. والآن أصبحت في التاسعة والثلاثين. جميعُ إخوتكِ الأصغرَ سنًا تزوجوا. حتى حسن، الذي تركتَه طفلاً صغيرًا، تزوج قبل ثلاثة أشهر. فقط احْساين لم يتزوج بعدُ، لأنه لا يزال صغيرًا جدًا. انظر! هؤلاء زوجات إخوتك. وأخواتُك أيضًا متزوجات الآن، ولديهن أطفال... والآن، أخبِرنا شيئًا عنك. أين كنت؟ ماذا كنت تفعل بنفسك؟ أخبِرنا، نحن مُتَشوِّقون لسماع أخبارك.
فقال مُحَمَّادْ بصوت مرتجف:
- ماذا عسايَ أقول لكِ يا أمي؟ كما تعلمين، لَطالما كنتُ شغوفًا بالتعلم. شعرتُ كما لو كنتُ مريضًا، أو مجنونًا. وشعرت أن الوسيلة الوحيدة لعلاج نفسي هي التَّعلم. لِذلك تعلمتُ كلَّ ما كان يُمكنني تعلُّمه هنا، وعندما لم يَعد لديّ ما أتعلمه هنا، رحلتُ كالمجنون. ذهبت من مكان إلى آخر باحثًا عن المعرفة. ذهبت مُلتمِسا المعرفة أينما اعتقدت أنني أستطيع العُثور عليها. كنت دائمًا متعطشًا للمزيد والمزيد من المعرفة. ويومًا بعد يوم، شهرًا بعد شهر، عامًا بعد عام، وجدت نفسي أبتعد أكثر فأكثر.
قالت يَزَّة بابتسامة ساخرة
وأين انتهت رحلتك؟
نظر إليها مُحَمَّادْ بحنان وقال:
- انتهت رحلتي عندما لم يَعد بإمكاني أن أبتعد أكثر. لقد اشتقت إليكم. لقد افتقدت القرية وأهلها. افتقدت أُرز أمي. لقد افتقدتكم جميعًا. ومُؤخرًا أراد صديقٌ لي، كان مُعجبًا بي جدًا، أن يزوِّجني ابنتَه. وعندما كنت على وشك أن أقول نعم، لأنني أحببت ذلك الصديق، وكنت أعرف أن ابنته كانت شابة وجميلة وعذراء - عندما كنتُ على وَشك قَبول عَرضه، أدركتُ أن أُمي ستغضبُ مني بشدة إذا تزوجت فتاة من خارج القرية. لذا، في أحد الأيام، استيقظت مبكرًا جدًا في الصباح وغادرت ذلك المكان دون عِلم صديقي. وها أنا ذا الآن مرة أخرى.
قالت يَزَّة:
- لكنك عُدتَ خالِيَ الوِفاض، كما أرى، كيف يمكنك الزواج وأنت لا تملك مالًا؟
طأطأ مُحَمَّادْ رأسه خجلًا وصمت.
قالت والدته:
- هل أَدَّيت صلواتك؟
- لا، ليس بَعدُ.
بِذا أجاب مُحَمَّادْ وهو مُحمر الوجه، ثم نهض ليخرج.
خرج من الغرفة مُتعثرًا. وعندما خرج، رفع بصره فرأى الهلال وحيدًا في إحدى زوايا السماء، جنوبَ القرية. تَنهد، ولَعن الشيطان. لكن وجه يَطّو لم يُفارق ذهنه. كانت عيناها الداكنتان وحاجباها وفمها الأحمر الصغير هناك: داخل ذهنه، أمام عينيه، وكانت تزداد وضوحًا وإشراقا كلما أطال التفكير فيها.
كان ستةُ رجال مُسترخين عند باب المسجد. كانوا يتجاذبون أطرافَ الحديث، ولكن الآن بعد أن قال مُحَمَّادْ السلام ساد الصمت. دخل مُحَمَّادْ المسجد فوجد رجلاً جالسًا في زاوية يقرأ القرآن. سَلَّم عليه مُحَمَّادْ وبدأ صلاته. وبينما كان يُصلي، وجد نفسه يفكر في يَطّو. لم يُفارق وجهُ يَطّو ذهنه.
أنهى صلاته وعاد إلى منزل والده. طلب من أخته يَزَّة مكانًا للنوم. فأشارت عليه بأن ينام على السجادة في غرفة الضيوف، وهي الغرفة نفسها التي رأى فيها لأول مرة عيني يَطّو الداكنتين وحاجبيها. دخل إلى هناك واستلقى على جنبه وحاول النوم. لكن النوم لم يأتِ.
في الصباح، كان مُحَمَّادْ جالسًا وساقاه مُتقاطعتان عندما ركلت يَزَّة الباب ودخلت حاملةً صينية في كلتا يديها. قالت بابتسامة خفيفة: هذا فطورك.
وبينما وضعت الصينية على السجادة وبدأت بالخروج، ناداها مُحَمَّادْ بصوت مرتجف:
- يَزَّة!
توقفت يَزَّة والتفتَت. قالت: نعم؟
- اقتربي، من فضلك. أريد التحدث معك!
جلست يَزَّة أمامه وقالت:
- ها أنا ذا! ما الذي تريد التحدث معي عنه؟
- عن يَطّو.
- يَطّو؟ لماذا؟
- هل هي متزوجة؟
- ليست مُتزوجة. ولكن لماذا تسألني عنها؟
- أريد الزواج منها - لذلك سألتكِ.
- ماذا! هل جُنِنت؟ ربما أنت لا تعلم أن يَطّو هي أجمل فتاة رآها أحدٌ في أي مكان. لقد جاء الرجال من كل حدَب و صوب وعرضوا على والدها ما لا يُصَدَّق من الذهب والفضة واللؤلؤ والإبل والخيول وكل أنواع الثروة، ومع ذلك رفض أن يُعطيها لأيٍّ منهم. ربما لا تعلم أن أيَّ رجل من هذه القرية تجرأ على التعبير عن رغبته في يدها سيتحول فورًا إلى أُضحوكة القرية. يَطّو امرأة لا يحلم بها إلا الأحمق. ثُم قل لي، لو كان والدُها مُستعدًا لمَنحِك إياها، فماذا ستعطيها كمهر؟
- بَغلتي، هذا كل ما أملِك.
انفجرت يَزَّة ضاحكَةً بسُخرِية. ثم قالت وهي تنهض للمغادرة:
- ظنَنتُك جاداًّ. أتمنى لك فطورًا شهيًا!
وما إن انتهى من فطوره حتى دخلت أمه وقالت:
- صباح الخير! ذهب جميع رجال القرية إلى السوق، لماذا لم تذهب أنت؟
- سأذهب إلى السوق الأسبوع المقبل، إن شاء الله.
- حسنًا. ولكن، من فضلك، لا تخرج من هذه الغرفة حتى يعود الرجال من السوق! لا لا تُوَرِّطونا في مشاكلَ مع فتيات القرية.
- لا أستطيع البقاءَ هنا في هذه الغرفة.
- اذهب إلى الفناء الخلفي، إذَن!
- حسنًا.
وذهب إلى الفناء الخلفي وجلس على كَومة من القش واستند إلى جذع شجرة زيتون وواجه السهلَ المُمتد إلى الوادي. وسُرعان ما تصَور نفسَه يُغادر المنزل ويَطّو تمشي إلى جانبه، بِردائها البرتقالي يُرفرف في الريح الخفيفة ؛ يَمشيان ببطء ويتحدثان همسًا، ثم يَشُقان طريقَهما عبر ذلك الخط السميك من القصب الذي يكاد يُخفي بطن الوادي.
وبَقِي هناك يُفَكِّر في يَطّو حتى جاءه أخوه الأصغر احْساين وقال له إن هناك رجلاً بالخارج يَطلُبه.
قال مُحَمَّادْ وهو ينهض على قدميه:
- اذهبْ واسأل أمي إن كان بإمكاني الخروج ومقابلة الرجل.
اختفى احْساين للحظة ثم عاد بجواب والدته:
- تقول إنك تستطيع مقابلتَه في غرفة الضيوف.
- حسنًا.
لم يكن مُحَمَّادْ يعرف الزائر، لكنه عرف على الفور أنه من مكان قريب، لأنه يتحدث نفس اللهجة الأمازيغية وكان يرتدي جلبابًا أبيض. قال الزائر و هو يجلس بالقرب من مُحَمَّادْ في غرفة الضيوف:
- جئتُ فقط لأسألَك إن كنتَ تعرف أي شيء عن الحساب. كنت في السوق هذا الصباح وسمعت عنك، وكنت أبحث حتى أضناني البحث عن شخص يُعَلمني أساسيات الحساب
لماذا تريد أن تتعلم الحساب؟
- لأكون صادقًا معك، لقد سمعت عن وظيفة مُثيرة للاهتمام، ولا يمكنني الحصول على هذه الوظيفة إذا لم أكن أعرف الحساب.
- هل هي وظيفةٌ مُقدَّمَةٌ من حاكم؟
قال الزائر مُتَرددًا:
- نعم، إن شئتَ.
- أين تسكن؟
- أسكن في توشكي.
- ليست بعيدةً عن هنا. ولكن كم ستدفع لي؟
- كما قلتُ لك، أحتاج فقط إلى تَعَلُّم أساسيات للحساب. وأنا تحت ضغط الوقت. ستذهب كل جهودي سدىً إذا لم أحصل على الوظيفة في غضون أسبوعين. لذلك سأحتاج إليك لمدة أسبوعين فقط.
- حسنًا! ولكن ماذا عن أجرتي؟
- سأُعطيك خمسة دراهم في اليوم ودجاجة في الأسبوع، كمكافأة.
قال مُحَمَّادْ مبتسمًا:
- اتفقنا.
سُرَّ الزائر بما سمع وقام ليذهب.
قال مُحَمَّادْ بصوت مِلؤه الرضى:
- سآتي إليك حالَما يعود رجال القرية من السوق.
- إلى اللقاء، إذَن.
- انتظر! قبل أن تذهب ذَكِّرني باسمك...
رافق مُحَمَّادْ ضيفَه إلى باب المنزل، وعندما استدار ليعود إلى غرفة الضيوف، نادته أمه من مسافة قصيرة على يمينه، وعندما وقف أمامها، قالت:
- من كان ذلك الرجل وماذا يريد؟
- إنه رجل من توشكي. يريد مني أن أعلمه الحساب حتى يتمكن من الحصول على وظيفة.
- وكم سيدفع لك؟
- خمسة دراهم في اليوم، بالإضافة إلى دجاجة في الأسبوع.
- وهل قَبِلت؟
- و لِم لا؟
- حسنًا! يمكنك الذهاب إليه، لكن صَدِّقني، لا تُخبِر إخوتك بِأَجرِك، وإلا سيسخرون منك!
ابتسم مُحَمَّادْ بخجل، واتجه إلى الفناء الخلفي. وهناك بَقِي يُفَكر ويَحلم حتى عاد والده وإخوته من السوق. ثم انضم إليهم في غرفة الطعام وألقى عليهم السلام وجلس بجانب والده. ابتسم له والده ابتسامة مصطنعة، وقال:
- هل ما زِلت مُتعَبًا؟
- أنا بخير يا أبي.
قال حسن، أحد أَشِقّاء مُحَمَّادْ:
- قل لي يا أبي، هل ستبيع الجملَ لحسين حقًا؟
- ما زِلت أفكرُ في الأمره لقد سمعت أن-
في تلك اللحظة، دخلت يَزَّة وهي تحمل طبقَ سمك ووضعته على المائدة، قائلة:
- الآن كلوا و بعد الأكل تحدثوا!
اقترب مُحَمَّادْ من المائدة وبدأ يأكل في صمت، بينما استأنف والده وشقيقه حديثهما عن الجمل.
بعد الغداء مباشرة، نهض مُحَمَّادْ وغادر غرفة الطعام. توضأ في الفناء الخلفي ثم صلى في غرفة الضيوف وخرج. كان يعلم أن منزل يَطّو يقع في الجانب الشرقي من القرية وأن توشكي في الجنوب الغربي، لكنه احتار أيَّ الطريقين يَسلُك. أخرج بغلته من الإسطبل وسار مسافة قصيرة و تباطأ في السير لَعلَّه يُقَرر ما يُنهي حيرَته. في النهاية، ركبَ البغلةَ واتجه نحو الجنوب الغربي، إلى توشكي. كانت الشمس قُبالَته. وكان الأطفال الذين رأوه لأول مرة في اليوم السابق يُلَوِّحون له الآن وهو يَمُر بِجوار الكرْم. كانت عناقيدُ العِنب في الكرْم سوداءَ داكنة، تكادُ تكون بلون عينَي يَطّو. عيناها هما اللتان تقودانه الآن. إنهما تُعَلِّمانه أشياء جديدة؛ إنهما تفتحان أمامه عالمًا جديدًا تمامًا . لكن يَطّو نفسَها كانت هناك: خلْفَه، مٌختَبِئةً عنه - تنتظر "أحمقًا" يأخذها بعيدًا عن أبيها.
رافقت هذه الأفكارُ مُحَمَّادْ طِوال الطريق إلى توشكي. كان الرجل الذي يريده بانتظاره عند باب منزله. استقبله بأجمل العبارات وساق بغلتَه إلى الإسطبل ثم عاد ليقوده إلى غرفة فسيحة مفروشة بسجادة باللونين الأسود و البرتقالي، و عليها وُضِعت صينية الشاي و صحون الحلويات و اللوز. و هاهو مُحَمَّادْ يَجلس جلسة المعلم و يبدأ فورا درسه الأول.
كانت الطيورُ تُحَلِّقُ عائدةً إلى أعشاشها وبدأ الليلُ يُسدِلُ سِتارَه عندما وصل مُحَمَّادْ و بغلتُه إلى مَدخل أزلو، تلك القرية التي ستنام فيها يَطّو بعد قليل. هل ستُفكر فيه عندما تذهب إلى النوم؟ ولماذا هو؟ ألم تكن تعرف أحدًا قبله؟ لقد التقَيا مرتين فقط، مَرتين في نفس اليوم. ثم رَحَلَت. لكن لماذا بَقِيت في منزل أبيه و لم تُغادر إلا في ٱخر ذلك اليوم؟ لماذا هي من بين كل النساء؟
استَأنَس مُحَمَّادْ بهذه الأفكار طِوال طريقِ عودته إلى أزلو. لم يَكن من شخصٍ ٱدَمِيٍّ في المكان لَمّا وصل. لم يكن هناك سوى طيور قليلة تطير في السماء وكلاب ضالة تنبح هنا وهناك.
كانت أسرةُ مُحَمَّادْ مستغرِقة في نومها. ولم يستيقظ أحد منهم عندما هَزَّ الكلبُ المُقَيَّد عند الباب الأمامي الليل بنباحه. كان الباب مُغلقًا. لم يجرؤ مُحَمَّادْ على فتحه؛ ليس خوفًا، ولكن ببساطة، لم يُرِد إزعاجَ أحدٍ. ربط بغلتَه إلى شجرة وأنزل السرج وأسنده إلى جذع شجرة أخرى وجلس عليه. رفع بصره إلى الهلال المضيء، ثم نظر نحو الشرق ء حيث منزل يَطّو.
وبقي هناك حتى الفجر. عندما استيقظَ اتجه إلى المسجد. و في الطريق قال في نفسه مُتَحَسِّرا: آه، لو كان المسجد قريبًا من منزلها!
وعند عودته من المسجد وجد مُحَمَّادْ والدَه جالسا تحت شجرةٍ أمام البيت، فَحيّاه بأدب وجلس القرفُصاءَ بجانبه وقال:
- أبي، أنا لا يَشغلُني شيء هذا الصباح، فإذا احتجت إليّ لأي عمل في الحقل، فأنا أستطيع مساعدتك.
- لا يا بُنَي، لا أحتاج إلى مُساعَدَتك، لا تُساعِدني أنا! ساعِد نفسَك! هذا ما أُريده منك. لقد أضعتَ سنينَ عديدةً من عُمرك بلا فائدة. لقد أهدرتَ شبابك بدون طائل. لقد عشتَ حياةً ضائعة، كلها خُسران في خُسران. الآن أنت على مَشارِف الأربعين، بلا منزل، بلا زوجة، بلا أطفال، بلا أرض، بلا مال، بلا شيء. كم ستعيش يا بُني؟ متى ستبدأ حياتك؟ هل كنتَ سعيدا عندما سخِر منك رجال القرية؟ لقد كانوا على حَق عندما سألوا عما أحضرتَه معك بعد كل هذه السنوات من الغياب. هل يُعقلُ ما فعلتَه بنفسك؟
- أبي، أريد أن أقول لك شيئا.
سكَت أبوه و لم يَقل شيئًا، لكنه استمع بِتَرقُّب.
- أريد الزواج من يَطّو. هذا ما أردت قولَه.
- ماذا! أَتريدني أن أصبِح أضحوكةَ القرية؟ استمع واستمعْ جيدًا! أحذرك! لا تذكُر هذا الاسم مرة أخرى! وإلا عُدْ من حيثُ أتيتَ!
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire