dimanche 29 septembre 2024

يطُّو ، مَنبعُ البهجة (رواية)

 الفصل    الأول 


رأى الأطفال قادمين نحوه. فتظاهر و كأنه لم يرهم. استقى الماء من البئر وسقى بغله. ثم شرب مباشرة من الدلو وغسل وجهه. وسرعان ما وقف الأطفال في نصف دائرة أمامه. التقى نظره بنظراتهم، وتجعد وجهه في ابتسامة عريضة، ثم قال فجأة، وهو ينظر إلى بغله:
هل أنتم من أزلو؟"  
تعجب الأطفال من حوله، فعاد يسألهم:
أنا جائع. قولوا لي: هل أنتم من أزلو؟" 
نظر الأطفال إلى بعضهم البعض وتبادلوا الابتسامات.
ثم عاد صوت الرجل:
"لمن هذا الكرم؟
 قالها وهو يغمس يده عميقًا في جيوبه، وأخرج منها حفنة من العملات المعدنية.
أشرقت وجوه الأطفال عند رؤية العملات المعدنية.
لاحظ الرجل ذلك، فحرك النقوذ في كفه حتى صار لها رنين، ثم قال
من منكم يستطيع أن يحضر لي العنب من هذا الكرم؟  أنا جائع!
 قال أحد الأطفال:
أخبرنا من أنت وسنحضر لك العنب!
أنا رجل جائع
 انفجر الأطفال ضاحكين بينما استمر الرجل في حديثه: والدي هو فمي وأمي هي معدتي.
قال طفل آخر، وكانت عيناه لا تزالان مثبتتين على العملات المعدنية:
وأطفالك؟
كل أطفال أزلو هم أطفالي! لذلك أعطيكم هذه النقوذ! خذوا!
مد الأطفال أيديهم بينما وضع الرجل عملة معدنية في كف كل واحد منهم. ثم قال:
و الآن، لنجلس!
وجلس جميع الأطفال في الحال وكأن آباءهم أمروهم بذلك. و قال الرجل:
قلت لكم إنني جائع. و لم تحضروا لي العنب، لذا سأبدأ في أكل أيديكم!
 ضحك الأطفال مرة أخرى، لكن أحدهم قفز واندفع نحو الكرم. وبعد لحظة عاد وهو يحمل في يديه عنقوداً جميلاً من العنب. و قال للرجل: تفضل!
 فأخذ الرجل العنب وبدأ يأكل بنهم. ثم قال وهو يمضغ:
 لقد ذهبت إلى أماكن كثيرة، ولكني عندما رأيت أزلو، قلت لنفسي إنه لا يوجد مكان أجمل تحت الشمس. فقال أحد الأطفال بصوت متردد:
 هل أنت من أزلو؟
فأسرع الرجل بالجواب حتى يخفي حمرة الخجل التي باغتته وظهرت على وجهه:
ما رأيكم أنتم؟
قال الطفل الذي سأله:
لم أرك قط. لكنك تتحدث مثلنا
أنا أتحدث مثلكم، لكن ملابسي ليست كملابسكم أليس كذلك؟ أنتم ترتدون جلابيب بيضا، وأنا أرتدي عمامة صفراء وقميص أزرق سماوياً ونعلين بيضاوين.
قال طفل آخر:
 نعم، ولديك لحية كثيفة وشارب محلوق.
و قال طفل ثالث:
  وأنت رجل جائع!
لذا أبدو غريبًا، أليس كذلك؟
قالها الرجل وهو يسلم ما تبقى من العنب إلى أحد الأطفالأومأ الأطفال برؤوسهم، وضحك بعضهم. أما الرجل، الذي كانت عيناه تتجولان من وجه إلى وجه، وكأنه يبحث عن شيء، فإنه حدق فجأة في أحد الأطفال وسأله: 
 ما اسمك يا فتى؟ 
 اسمي احساين
 قالها الطفل بخجل. فعاد الرجل ليسأله:
من أبوك؟
والدي هو احماد أمكون.
اندهش الرجل. بدا وكأنه وجد الشيء الذي كان يبحث عنه. و ظهرت عليه ٱثار المفاجإة. و الأطفال أيضا استغربوا؛ لكنهم لم يقولوا شيئا. ظلوا ينظرون إلى الرجل عندما تنهد فجأة وقال بصوت مرتجف:
"قل لي يا احساين، هل تعرفني؟"
لا، يا سيدي.
هل لك أي إخوة أو أخوات؟"
 نعم، سيدي.
أخبرني بأسمائهم! 
 أحمد، إبراهيم، حسن، يزة وفاطمة.
لم تنس أحدا؟ 
أطلق الأطفال ضحكة خجولة، لكن احساين قال بعد ذلك:
 لي أيضًا أخ آخر غائب.
إلى أين ذهب؟
 لا أدري. لم أره قط. 
  ما اسمه؟   
  محماد.  
و كأن الدنيا توقفت للحظة، و استنار وجه الرجل بابتسامة عريضة. و زاد استغراب الأطفال و جحضت أعينهم من المفاجأة لما قال الرجل و عيناه تكادان تدمعان:
 أنا أخوك محماد!
لكن احساين بدا غير مصدق. قال وهو يحمر خجلا:
حقا؟ أخي محماد له لقب. فهل لك لقب؟ 
 نعم. لقبي هو "الفيلسوف".
ما إن نطق محماد بهذه الكلمات حتى قفز احساين على قدميه واندفع في اتجاه منزل أهله، صارخا:
الفيلسوف عاد! الفيلسوف عاد
وفي لمح البصر خرج كل أهل القرية ء رجالا ونساء وأطفالا ء أتوا من كل البيوت، ،من خلف أقرب المنازل و أبعدها، و معهم الزغاريد و صيحات الفرح و الترحاب،  فاندفعوا إلى الأمام، و الأطفال الصغار يهتفون: "الفيلسوف عاد! الفيلسوف عاد

حتى محماد أجهش بالبكاء وهو يعانق أهله و أقاربه الباكيين واحدا تلو الآخر. حتى إننه  لم يتمالك نفسه فأطلق العنان لدموعه عندما ضمه والده الباكي بين ذراعيه.

وها هم أهل القرية يقودونه إلى بيت أبيه كما تقاد العروس إلى بيت زوجها. كان منزل والده أكبر من مسجد البلدة، لكنه ضاق بكل هؤلاء الذين جاءوا لتقديم أطيب تمنياتهم بعودة محماد.


 ثم جلس محماد بين أهم رجال القرية في أجمل غرفة في منزل  والده. و ها هو يجيب على سؤال تلو الآخر حتى قبل أن يقدم الشاي.
    أين كنت طيلة هذا الوقت؟"
كنت في كل مكان ولا مكان
قال المتحدث الأول وهو ينظر حول القاعة المزدحمة 
أللم أكن قد   أخبرتكم عنه؟" هذا الرجل لا يستطيع أن يعطي إجابات واضحة. ولهذا السبب أطلق عليه الشيخ حيمي لقب "الفيلسوف". إنه فيلسوف حقًا، أليس كذلك؟ ولكن...
 التفت إلى محماد وقال: 
"قل لنا، أيها الفيلسوف، ماذا أحضرت معك بعد كل هذه السنوات من الغياب؟"
كل شيء ولا شيء.
.قالها محماد دون أي نبرة من الحقد في صوته. لكن السائل عاد ليسأله وسط  ضحك من حوله من الرجال: 
نحن نفهم "لا شيء"،  ولكن ماذا تقصد بـ "كل شيء"؟
أستطيع أن أريك "لا شيء" بالسماح لك بالنظر إلى داخل جيوبي وحقيبتي، لأنك لن تجد شيئًا في جيوبي أو حقيبتي؛ ولكن لا أستطيع أن أريك "كل شيء"، لأن كل شيء في ذهني، و ذهني في رأسي، ولدي رأس واحد فقط، لذلك لا يمكنني قطع أو كسر رأسي لمجرد أن أظهر لك أن "كل شيء" في رأسي حقًا!
 قال متحدث آخر: 
 من فضلك! من فضلك. دعه وشأنه! إنه حر. إذا كان لديه كل شيء، فهذا ما نتمناه له؛ و إذا لم يكن لديه شيء، فهذه مشكلته الخاصة. الآن دعنا من هذا الموضوع!
لقى محماد نظرة على والده وتنهد. لقد علم من وجه والده العابس أنه لم يكن سعيدًا. لذلك أطرق رأسه و ذكر ربه في نفسه. و ماهي إلا لحظات حتى  بدأت الأطباق الأولى توضع على الطاولات المنخفضة عند أقدام الرجال. نظر محماد إلى الطبق الذي أمامه وتساءل متى أكلمثل هذا الطعام آخر مرة: دجاج مع أرز وزبيب. جلس بالقرب من الطاولة وبدأ يأكل في صمت، محاولاً قدر استطاعته ألا يعلق على ما يقوله الرجال من حوله.
وعندما حل المساء، غادر آخر الزوار، وهكذا وجد محماد نفسه جالسًا بمفرده في هذه الغرفة الكبيرة. لم يستطع مغادرة الغرفة. شعر بالخجل. كان يعلم أن والدته وأختيه وبعض الأطفال الصغار ألذين على الأرجح كانوا أبناء  وبنات إخوته و أخواتهء كانوا في الغرفة المجاورة. كان يسمع أصواتهم. لكنه لم يستطع الذهاب والجلوس معهم. كان يخشى الأسئلة المحرجة. لذلك بقي مكانه وعيناه مثبتتان على الباب وانتظر ليرى ما إذا كان أحد سيأتي إليه ويجلس معه ويتحدث معه. ظل في مكانه ينتظر، بينما استمر ضجيج النساء وأطفالهن دون انقطاع في الغرفة المحيطة. وفجأة ظهرت شابة في العشرين من عمرها على الباب وألقت عليه نظرة توحي بالدهشة ثم اختفت. كأنت نظرة كالصاعقة ارتجف لها محماد. وبعد لحظة دخلت أخته يزة مبتسمة وقالت:
 محماد، لماذا تجلس هنا وحدك؟ تعال! تعال واجلس معنا!
لكن محماد كان أضعف من أن يقف على قدميه. فتح شفتيه وكأنه يريد أن يتحدث، لكنه ظل صامتًا. فعادت أخته تسأله: 
ما بك يا هذا؟"
قال متلعثما: 
 أنا آسف، لم تكن امرأة شابة تعلم أنني هنا ونظرت إلى الداخل ورأتني. أنا آسف
 قالت أخته و هي تضحك: 
لا تقلق! هذه يطو، ابنة خالتي خديجة. إنها أخبرتني. لا تقلق بشأن ذلك. تعال! تعال واجلس معنا.
كافح محماد للوقوف على قدميه وتبع أخته خارج الغرفة. أخذته إلى غرفة أصغر كثيرًا، وكان عليها أن تقوده مثل رجل أعمى عندما تعثر على عتبة الباب. ضحكت والدته وأخواته وثلاث نساء أخريات بهدوء عندما رأين عينيه ملتصقتين بالشابة ذات الثوب البرتقالي والأخضر. لم يستطع أن يرفع عينيه عنها عندما دعته أمه ليجلس بجانبها. وبينما هو يجلس قالت له أمه:
"كنت أظن أنك لن تعود أبدًا. كنتَ في الرابعة والعشرين من عمرك فقط عندما تركتنا. والآن أصبحت في التاسعة والثلاثين. لقد تزوج إخوتك الأصغر سنًا. حتى حسن الذي تركته طفلاً تزوج منذ ثلاثة أشهر. فقط احساين لم يتزوج بعد، لأنه لا يزال صغيرًا جدًا. انظر! هؤلاء زوجات إخوتك. وأخواتك أيضًا متزوجات الآن، ولديهن أطفال... الآن، أخبرنا شيئًا عنك. أين كنت؟ ماذا كنت تفعل بنفسك؟ أخبرنا، نحن مشتاقون لسماع أخبارك!
 ماذا عساي أقول لك يا أمي؟
 قالها محماد بصوت مرتجف. "كما تعلمين، كنت دائمًا شغوفا بالعلم، حريصًا على التعلم. شعرت وكأنني مريض. أو مجنون، إذا صح التعبير. وشعرت أن الطريقة الوحيدة التي يمكنني بها علاج نفسي هي من خلال التعلم. "لقد تعلمت كل ما كنت أستطيع تعلمه هنا، وعندما لم يعد لدي ما أتعلمه هنا، ابتعدت، كالمجنون. ذهبت من مكان إلى آخر بحثًا عن المعرفة. ذهبت ملتمسا المعرفة أينما اعتقدت أنني أستطيع العثور عليها. كنت دائمًا متعطشًا لمزيد من المعرفة. ويومًا بعد يوم، وشهرًا بعد شهر، وسنة بعد سنة، وجدت نفسي أبتعد 
أكثر فأكثر.
قالت يزة بابتسامة ساخرة: 
 وأين انتهت رحلتك؟ 
نظر إليها محمد بحنان وقال: 
 انتهت رحلتي عندما لم يعد بإمكاني أن أبتعد أكثر. لقد اشتقت إليكم.
 لقد افتقدت القرية. افتقدت أهلها. لقد افتقدت أرز أمي. لقد   افتقدتكم جميعًا. ومؤخرًا أراد أحد أصدقائي، الذي أحبني كثيرًا، أن يزوجني ابنته. وعندما كنت على وشك أن أقول نعم، لأنني أحببت ذلك الصديق، وكنت أعرف أن ابنته كانت شابة وجميلة وعذراء ء عندما كنت على وشك قبول عرضه، أدركت أن أمي ستكون غاضبة جدًا مني إذا تزوجت فتاة من خارج القرية. لذا، في أحد الأيام، استيقظت مبكرًا جدًا في الصباح وغادرت ذلك المكان دون أن يعلم صديقي. وها أنا ذا الآن مرة أخرى.
 قالت يزة:
لكنك عدت خالي الوفاض، كما أرى، "كيف يمكنك الزواج وأنت لا تملك مالًا؟
أطرق محمد رأسه خجلاً وصمت.
قالت والدته:
هل أديت صلواتك؟
لا، لس بعد.
بذا أجاب محماد وهو محمر الوجه، ثم نهض ليخرج.
خرج من الغرفة و يجر قدميه. وعندما خرج، رفع عينيه إلى أعلى فرأى الهلال وحيدًا في إحدى زوايا السماء، جنوب القرية. تنهد، ولعن الشيطان. لكن وجه  يطو لم يترك ذهنه. كانت عيناها الداكنتان وحاجباها وفمها الأحمر الصغير هناك: داخل ذهنه، أمام عينيه، وكانت تزداد وضوحًا و إشراقا كلما أطال التفكير فيها.



كان ستة رجال مسترخين عند باب المسجد. كانوا يتجاذبون أطراف الحديث، ولكن الآن بعد أن قال محماد السلام عليكم صمتوا جميعًا. دخل محماد المسجد ووجد رجلاً جالسًا في الزاوية يقرأ القرآن. سلم عليه محماد وبدأ صلاته. وبينما كان يصلي، وجد نفسه يفكر في   يطو. لم يترك وجه يطو ذهنه.
أنهى صلاته وعاد إلى منزل والده. طلب من أخته ييزا مكانًا للنوم. فأشارت عليه بأن ينام على السجادة في غرفة الضيوف، وهي الغرفة نفسها التي رأى فيها لأول مرة عيني يطو الداكنتين وحاجبيها. دخل إلى هناك واستلقى على جانبه وحاول النوم. لكن النوم لم يأتِ.

في الصباح، كان محماد جالسًا وساقاه متقاطعتان عندما ركلت ييزا الباب ودخلت وهي تحمل صينية في كلتا يديها. قالت بابتسامة صغيرة: ها هي وجبة الإفطار.
بينما وضعت الصينية على السجادة وبدأت في الخروج، ناداها محماد بصوت مرتجف:
ييزا!
توقفت ييزا واستدارت. قالت: نعم؟
اقتربي، من فضلك. أريد التحدث معك.
جلست ييزا أمامه وقالت:
ها أنا ذا! ما الذي تريد التحدث معي عنه؟
عن يطو.
  يطو؟ لماذا؟
هل هي متزوجة؟
 ليست متزوجة. ولكن لماذا تسألني عنها؟
أريد الزواج منها ء لذلك سألتك.
ماذا! هل أنت مجنون؟ ربما أنت لا تعلم أن  يطو هي أجمل فتاة رآها أي شخص في أي مكان. لقد جاء الرجال من كل حدب و صوب وعرضوا على والدها ما لا يصدق من الذهب والفضة والجواهر و النوق و الجمال و الخيول وكل أنواع الثروة ومع ذلك رفض أن يعطيها لأي منهم. ربما لا تعلم أن أي رجل من هذه القرية يجرؤ على التعبير عن رغبته في يدها سيتحول على الفور إلى أحمق القرية.   يطو امرأة لا يحلم بها إلا الأحمق. وأخبرني، لنفترض أن والدها كان على استعداد لإعطائها لك، فماذا ستعطيها كمهر؟
بغلتي، هذا كل ما لدي!
انفجرت ييزا في ضحكة ساخرة. ثم قالت وهي تنهض للذهاب:
عتقدت أنك جاد. تناول فطورًك!

ما أن تناول فطوره حتى دخلت والدته وقالت:
صباح الخير! ذهب جميع رجال القرية إلى السوق، لماذا لم تذهب أنت؟
سأذهب إلى السوق الأسبوع المقبل، إن شاء الله.
حسنًا. ولكن من فضلك لا تترك هذه الغرفة حتى يعود الرجال من السوق! لا تسبب لنا مشاكل مع فتيات القرية!
لا يمكنني البقاء هنا في هذه الغرفة!
اذهب إلى الفناء الخلفي، إذن!
حسنًا.


 وذهب إلى الفناء الخلفي وجلس على كومة من القش واتكأ على جذع شجرة زيتون وواجه السهل المتدحرج إلى الوادي. وسرعان ما تصور نفسه يغادر المنزل مع  يطو تمشي إلى جانبه، وثوبها البرتقالي يرفرف في الريح الخفيفة ؛ يمشيان ببطء ويتحدثان همسًا، ثم يشقان طريقهما عبر ذلك الخط السميك من القصب الذي يخفي تقريبًا بطن الوادي...

وبقي هناك يفكر في  يطو حتى جاءه أخوه الأصغر احساين وقال له إن هناك رجلاً بالخارج يطلبه.
قال محماد وهو ينهض على قدميه:
 اذهب واسأل أمي إن كان بإمكاني الخروج ومقابلة الرجل،
اختفى احساين للحظة ثم عاد بجواب والدته:
 تقول إنك تستطيع مقابلته في غرفة الضيوف.
حسنًا.
لم يكن محماد يعرف الزائر، لكنه عرف على الفور أنه من مكان قريب، لأنه يتحدث نفس اللهجة الأمازيغية وكان يرتدي جلبابًا أبيض. قال الزائر و هو يجلس بالقرب من محماد في غرفة الضيوف:
جئت فقط لأسألك عما إذا كان لديك أي معرفة بالحساب. "كنت في السوق هذا الصباح وسمعت عنك، وكنت أبحث حتى أضناني البحت عن شخص يعلمني مبادئ الحساب.
 لماذا تريد أن تتعلم الحساب؟  
 لأكون صادقًا معك، لقد سمعت عن وظيفة مثيرة للاهتمام، ولا يمكنني الحصول على تلك الوظيفة إذا لم أكن أعرف الحساب.
هل هي وظيفة عرضها حاكم؟
 قال الزائر مترددًا:
نعم، إن شئت.
أين تسكن؟
أسكن في توشكي.
هذا ليس بعيدًا جدًا عن هنا. ولكن كم ستدفع لي؟
كما قلت لك، أحتاج فقط إلى تعلم امبادئ الأساسية للحساب. وأنا تحت ضغط الوقت. ستكون كل جهودي بلا جدوى إذا لم أحصل على الوظيفة في غضون أسبوعين. لذلك سأحتاج إليك لمدة أسبوعين فقط.
حسنًا! ولكن ماذا عن أجرتي؟
 سأعطيك خمسة دراهم في اليوم ودجاجة في الأسبوع، كمكافأة.
 قال محماد مبتسمًا:
اتفقنا!
سُر الزائر بما سمع  وقام ليذهب.
قال محمد بصوت راضٍ:
سأأتي عندك بمجرد عودة رجال القرية من السوق.
إلى اللقاء إذن!
انتظر! قبل أن تذهب ذكرني باسمك...
رافق محماد ضيفه إلى باب المنزل، وعندما استدار ليعود إلى غرفة الضيوف، نادته والدته من مسافة صغيرة إلى يمينه، ولما وقف أمامها، قالت:
من كان ذلك الرجل وماذا يريد؟
إنه رجل  من توشكي. يريد مني أن أعلمه كيفية إجراء الحسابات حتى يتمكن من الحصول على وظيفة.
وكم سيدفع لك؟
خمسة دراهم في اليوم، بالإضافة إلى دجاجة في الأسبوع.
وهل قبلت؟
و لم لا؟
حسنًا! يمكنك الذهاب إليه، لكن صدقني، لا تخبر إخوتك بأجرك، وإلا سيسخرون منك!

ابتسم محماد بخجل، وانتقل إلى الفناء الخلفي. وبقي هناك، يفكر ويحلم، حتى عاد والده وإخوته من السوق. ثم انضم إليهم في غرفة الطعام وألقى عليهم السلام وجلس بجانب والده. ابتسم له والده ابتسامة مصطنعة، وقال:
هل ما زلت متعبًا؟
أنا بخير يا أبي.
قال حسن، أحد أشقاء محماد:
قل لي يا أبي، هل ستبيع الجمل لحسين حقًا؟
 ما زلت أفكر في الأمره. لقد سمعت أن...
في تلك اللحظة، دخلت يزة و هي تحمل طبقًا من السمك ووضعته على المائدة، قائللة:
الآن كلوا و بعد الأكل تحدثوا!
اقترب محماد من المائدة وبدأ يأكل في صمت، بينما استأنف والده وشقيقه حديثهما عن الجمل.

بعد الغداء مباشرة، نهض محماد وغادر غرفة الطعام. توضأ في الفناء الخلفي ثم صلى في غرفة الضيوف وخرج. كان يعلم أن منزل  يطو يوجد في الجانب الشرقي من القرية وأن توشكي في الجنوب الغربي، لكنه احتار أي الطريقين يسلك. أخرج بغله من الإسطبل وسار مسافة قصيرة و تباطأ في السير لعله يقرر ما ينهي حيرته. في النهاية، ركب البغل واتجه نحو الجنوب الغربي، إلى توشكي. كانت الشمس قبالته. وكان الأطفال الذين رأوه لأول مرة في اليوم السابق يلوحون له الآن وهو يمر بجوار الكرم. كانت عناقيد العنب في الكرم سوداء داكنة، تقريبًا بلون عيني يطو. عيناها هما اللتان تقودانه الآن. إنهما تعلمانه أشياء جديدة؛ إنهما تفتحان أمامه عالمًا جديدًا تمامًا . لكن يطو نفسها كانت هناك: خلفه، مختبئة عنه ء تنتظر "أحمقًا" يأخذها بعيدًا عن والدها ...


رافقت هذه الأفكار محمادًا طوال الطريق إلى توشكي. كان الرجل الذي يريده بانتظاره عند باب منزله. استقبله بأجمل العبارات وساق بغله إلى الإسطبل ثم عاد ليقوده إلى غرفة فسيحة مفروشة بسجادة باللونين الأسود و البرتقالي،   و عليها وضعت صينية الشاي و صحون الحلويات و اللوز. و هاهو محماد يجلس جلسة المعلم و يبدأ فورا درسه الأول.

 كانت الطيور عائدة إلى أعشاشها والليل يسدل ستاره عندما وصل محماد و بغله  إلى مدخل أزلو، تلك القرية التي ستنام فيها يطو قريبًا. هل ستفكر فيه عندما تذهب إلى النوم؟ ولماذا هو؟ ألم تكن تعرف أحدًا قبله؟ لقد التقيا مرتين فقط، مرتين في نفس اليوم. ثم رحلت. لماذا بقيت في منزل أبيه و لم تغادر إلا في ٱخر ذلك  اليوم؟ لماذا هي من بين كل النساء؟...

استأنس  محماد بهذه الأفكار طوال الطريق إلى أزلو. لم يكن من شخص ٱدمي في المكان لما وصل. لم يكن هناك سوى طيور قليلة تطير في الهواء وكلاب ضالة تنبح هنا وهناك.


كانت أسرة محماد مستغرقة في نومها. ولم يستيقظ أحد منهم عندما هز الكلب المقيد عند الباب الأمامي الليل بنباحه. كان الباب مغلقًا. لم يجرؤ محماد على فتحه؛ ليس خوفًا، ولكن ببساطة، لم يكن يريد إزعاج أحد. ربط بغله إلى شجرة وأنزل السرج وأسنده إلى جذع شجرة أخرى وجلس عليه. رفع بصره إلى الهلال المضيء، ثم نظر نحو الشرق ء حيث منزل يطو.

وبقي هناك حتى الفجر. عندما استيقظ اتجه إلى المسجد. و في الطريق قال في نفسه متحسرا: آه، لو كان المسجد قريبًا من منزلها!

وعند عودته من المسجد وجد محماد والده جالسا تحت شجرة أمام البيت، فحيّاه بأدب وجلس القرفصاء بجانبه وقال:
أبي، أنا لا يشغلني شيء هذا الصباح، فإذا احتجت إليّ لأي عمل في الحقل، فأنا أستطيع مساعدتك.
 لا يا بني، لا أحتاج إلى مساعدتك، لا تساعدني أنا! ساعد نفسك! هذا ما أريده منك. لقد أضعت سنين عديدة  من عمرك بلا فائدة. لقد أهدرت شبابك بدون طائل. لقد عشت حياة ضائعة، كلها خسران في خسران. الآن أنت على وشك الأربعين، بلا منزل، بلا زوجة، بلا أطفال، بلا أرض، بلا مال، بلا شيء. كم ستعيش يا بني؟ متى ستبدأ حياتك؟ هل كنت سعيدا عندما سخر منك رجال القرية؟ لقد كانوا على حق عندما سألوا عما أحضرته معك بعد كل هذه السنوات من الغياب. هل من المعقول ما فعلته بنفسك؟
 أبي، أريد أن أقول لك شيئا.
سكت أبوه و لم يقل شيئًا، لكنه استمع بترقب.
أريد الزواج من يطو. هذا ما أردت قوله.
ماذا! أتريدني أن أصبح أضحوكة القرية؟ استمع واستمع جيدًا! أحذرك! لا تذكر هذا الاسم مرة أخرى! وإلا فارجع من حيث أتيت!

  

الفصل الثانئ

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire