محمد علي لكوادر المحمدية، المملكة المغربية

محمد علي لكوادر المحمدية، المملكة المغربية

dimanche 29 septembre 2024

الفصل الخامس

  • الفصل    الخامس

.
  • غادروا منزل أسرة مُحَمّادْ وقصدوا بيت يطّو. كان والدها واقفًا عند الباب مُتأهِّبا للمواجَهة . وبينما كان حسن وإسماعيل وعبد العزيز يقتربون من الباب، أطلق كلبه عليهم و صاح في وجوههم:
    أعرف ما جئتم من أجله! لكني أُحذركم لآخر مرة. إما أن تبتعدوا عن طريقي وإما سأطردكم من هذه البلاد. إليكم عني! (كان يتكلم بغضب بينما كان كلبه ينبح نباحا مسعورا على الطلبة الذين اضطُروا إلى التراجع لِلخلف.) ها أنَذا أحذركم للمرة الأخيرة: ابتعدوا عني وإلا سأطردكم من هذه البلاد! اذهبوا! اخرجوا من هنا!
     
    وابتعد الطلبة عن منزل يطّو؛ ساروا جميعا خَلْفَ مُحَمّادْ. وهاهُم يقفون وسطَ القرية. تجمَّع حولهم الرجال والأطفال. عندها وقف مُحَمّادْ على صخرة وبدأ يلقي خطابة:
    - أنا مُحَمّادْ بن حْماد أمگون، كما تعلمون. كنت غائبًا لسنواتٍ عديدة، وعندما عدتُ وقعت عيني على يطّو، ابنة خالتي. فأحببتُها دون عِلمِها. وأردت الزواج منها. كنت أعلم أن لا مالَ لي ولا مَتاع، ولكنني الآن أفضلُ حالاً مما كنت عليه عندي عودتي. الرجال الذين ترَون من حولي هم طلبتي. لقد جاءوا إليّ لأنهم يعلمون أنني لست مجنونا ولا معتوها. واليوم هم أتَوا معي إلى منزل يطّو لأنهم يعلمون أنني لم أفقد عقلي ولا صوابي. نعم، لقد رفض والد يطّو استقبالنا. ولا نلومه على ذلك. نحن نحترمه ونحترم قراره. وأنا أحبه بقدر ما أحب والدي. وأحترمه مثلما أحترم أبي. الآن لِنَترُك الحكايةة تنتهي هنا! لنحترمْ بعضنا البعض! لا أريد أن يتحدثَ أحدٌ بسوء عن يطّو أو عن والدها أو والدي أو عنّي. ليسَ عاراً أن يُحب رجلٌ امرأة. ولا عيبَ في أن يُرَدَّ رجلٌ رغِب في خِطبة امرأة يحبها. ولا عيبَ في أن يَرفُضَ أبٌ تزويجَ ابنته لرجل لا يحبه. الحب ليس عارًا. وأنا لست خجِلاً مما فعلته. ولا يَخجل طُلابي من مجيئهم معي اليومَ. هذا كل ما كنت أريد قولَه. بارك الله في أزلو!
    قال الجميع: آمين!
    نزل مُحَمّادْ من على الصخرة وقاد طلابه نحو الأكواخ.
     
    وعندما وصلوا إلى هناك، واجه مُحَمّادْ جميع الطلاب وقال:
    - أعتذر لكم عما سبَّبته لكم من إحراج في هذا اليوم. ولكن، كما قلتُ لأخي حسن، عندما زارني لأول مرة، إن العشاق لَيُخطِئون أحيانًا أخطاء المجانين، وبعضهم يصابون بالجنون. أنا مُتأكد من أنني لم أُجَنّ، لكنني لست متأكدًا تمامًا مِمّا إذا كان ما فعلتُه اليومَ من فعلِ المجانين أم لا. وأنا لم أكن لأطلب أي شيء منكم. لكن البعضَ منكم لاموني وقالوا إنني يجب عليّ أن أتزوج. وقلت لهم إنني لا أستطيع الزواج طالما أن المرأة التي أحبها لم تتزوج. هذه ليست مجرد مسألة اختيار. إنها ليست مجرد مسألة حب. بل إنها مسألة إيمان. إنها مسألة لها علاقة بالأمل واليأس. فإذا كنتم تعتقدون أنه لا ينبغي للمسلم الصالح أن ييأس من رحمة الله، فكيف تريدون مني أن ييأس ما دام هناك أمل؟ أنا أحب يطّو، وآملُ أن تتحققَ أمنيتي بالزواج منها. أنا أعلم ما بها من حُسن وجمال. وأعلم أن والدها يحلم بزوج أفضل لها. ولكن لماذا عليَّ أن أشعر باليأس بينما لا يزال هناك مجال للأمل؟ لقد علمنا القرآن أنه لا ييأس إلا الكافرون. لذا، إذا أنا فقدتُ الأمل، فهذا يعني أنني لا أثق في الله؛ وهذا يعني أنني لا أؤمن بأن الله على كل شيء قدير. الآن، من فضلكم، دعونا ننسى ما جرى. ودعوني أحلم بسلام! هذا لن يؤَثر عليَّ كمُعلم. واسمحوا لي أن أُرَحب مرة أخرى بالوافدين الجُدد. أنا سعيدٌ بقُدومكم للانضمام إلينا. والآن، يمكنكم أن تستريحوا. سنلتقي، إن شاء الله، فورًا بعد صلاة الظهر. فليُبارك الله فيكم جميعا!
    قالوا جميعا: آمين!
     
    ومَرَّ أسبوعان، كان مُحَمّادْ جالساً يُلقي درساً على طلبته حول التفاؤل والقنوط لَما بدأ الماء يسيل فجأة عبر سقف قاعة الدرس. قام بعض الطلبة من أمكنتهم. بل إن مُحَمّادْ نفسَه قام وخطا خطوات ثقيلة نحو الباب. واضطرب فؤاده واستولت عليه الحيرة عندما رأى المطر ينهمر بغزارة. فجأة، اقترب منه حسن وهمس في أذنه:
    - لا تقلق يا معلم! سأرى كيف أحل المشكلة.
    قال مُحَمّادْ بصوت خفيض:
    - وماذا ستفعل؟
    - سننتقل من هنا، إذا لزِم الأمر.
    التفت مُحَمّادْ إلى الطُّلاب المذهولين، ونظر في وجوههم الحائرة، ثم قال:
    - لا أعتقد أننا بإمكاننا البقاءُ هنا لفترة أطول. علينا أن ننتقل إلى مكان آمن. أخونا حسن سيتولى هذا الأمر.
    تحولت أنظار جميع الطلاب نحو حسن، الذي ابتسم و قال:
    - فقط قولوا: 'الله خلقني، الله رزقني، الله علمني، الله هداني' وسيكون كل شيء على ما يرام، إن شاء الله!
    خرج مُحَمّادْ من القاعة وهو يقول "الله خلقني، الله رزقني، الله علمني، الله هداني" ، وتبعه الآخرون جميعًا، بينما كان المطر يَهطل على رؤوسهم.
     
    مَر شهرٌ بسلام، ثم في أحدِ الأيام، صرخ صارخّ صرخةً زعزعت قلبَ مُحَمّادْ. أرهف السمعَ فتبينَ له أن الصرخةَ لِامرأةٍ . فقام وخرج مُسرعا وهرع إلى الطريق وسأل أولَ المارَّة: ماذا يحدث؟ فقال الرجلُ وهو يُكافح لكبح جِماح حصانه: ألا تعلم؟ إن آيت ميمون في طريقهم لِغَزوِنا. تقول الشائعات إنهم سيَصلون خلال تسعة إلى اثني عشر يومًا! فاللهم احفظنا!
    كان المتكلم يتكلم كَمن أعياه السباق. ولَما أنهى كلامَه، وبضربة من سَوط، حثَّ حصانَه على المُضِيِّ قُدُماً ولم يلتفت. أما مُحَمّادْ فقد خارت قُواه وجثا على ركبتيه ووضع يديه على رأسه. 
     
    مرت دقائق قبل أن يقوم قيام المريض ويخطو خطوات مَن يتماثل للشفاء. كان الطريق يبدو أمام عينيه كما يبدو لِسكران. مشى عليه مشية اللص في الظلام وهو يقول في نفسه: ماذا سأقول للطلبة عندما يعودون من السوق؟ ماذا سأقول لِحسن، وهو من آيت ميمون؟ ها قد جاء اليوم الذي كنت أخشاه. لآن ضاعت يطّو! ضاع حسن. كل أزلو ضاع الآن. فماذا عساي أفعل؟ يا إلهي!
    تأَوَّهَ تأوُّهَ مَن فقدَ كل شيء، ثم فجأة، ركض وَجرى ولم يتوقف إلّا وهو في المسجد القصبي. وفيه بقي مُستغرقاً في الدعاء والتضرع إلى أن سَمع ضجيجاً حول المسجد. مسح عينيه ورتَّب جلبابه وخرج. فهرول الطلبة نحوه، وكان الحزن بادياً على وجوههم. نظر إليهم وكأنه يَستغرب حالَهم وقال:
    - ما الأمر؟
    فقال أحدهم:
    - إن مصيبة على وشك أن تصيبنا، يا معلم!
    وقال آخر:
    - يُقال إن قبائل آيت ميمون في طريقها إلى تانسيفت، يا معلم!
    فقال مُحَمّادْ، مُحاولاً أن يبدوَ هادئاً وواثقاً من نفسه: أين حسن؟
    قال إسماعيل: تركناه في السوق مع ثلاثة طلاب آخرين. إنهم جميعاً من آيت ميمون، وهم يخشون على حياتهم.
    قال مُحَمّادْ وهو ينظر إلى الأرض: من حقهم أن يخافوا. وقال في نفسه: هذا ما كنت أخشاه! ثم رفع رأسه وقال:
    - الآن أنتم تتطلَّعون إليَّ طلباً للمساعدة، أليس كذلك؟ يُؤسفني أن أقولَ لكم إنني عاجزٌ عن مساعدتكم. فلندعو الله العليَّ القدير، ربَّ السماوات والأرض، ناصرَ الحق بالحق، قاهرَ الطُّغاة، راحِم المُستضعفين، أن يتداركنا بعونه ونُصرته!
    فقاطعه أحد الطلاب قائلا: لكن يا معلم، الوقت ينفد! يجب علينا أن نفعل شيئاً لإنقاذ أنفسنا!
    قال مُحَمّادْ، وهو يُحدِّق في المُتحدِّث بنظرة غاضبة: إذا كنتَ لا تهتم إلا بنفسك وحياتك دون غيرك فَلن تنجو بنفسك! ثم التفت نحو باقي الطلبة وقال بصوت هادئ هذه المرة: من كان منكم يريد الآخرة فليتبعني! وانطلق وهو يُردد: "الله خلقني، الله رزقني، الله علمني، الله هدانى"...
    وفي أثناء سَيره شعر أن هناك رجلاً واحداً فقط يتبعه. إنه إسماعيل، الذي قاطعه فجأة قائلا: هل أذهب لأستدعي حسن؟ فالتفت إليه مُحَمّادْ وقال مبتسماً: لا، من فضلك! دعه وشأنه!
    ثم رفع بصره فإذا به يرى باقي الطلبة يسعون إليه سعيا. فازدانَ وجهه بابتسامة لم يَر أحد مثلها من قبل لَما تجمعوا حوله وقالوا: سِرْ بنا حيثما شئت يا معلم! سنذهب معك! فقال مُحَمّادْ: إذن فلنذهب على بركة الله!
    ثم تابع طريقه والطلبةُ خلفَه يُرددون شعارهم: خلقني: "الله خلقني، الله رزقني، الله علمني، الله هدانى"...
    وهناك، في وسط القرية، وقف مُحَمّادْ على الصخرة الكُبرى كما يقف الإمام على المنبر، ثم قال:
    - أيها الطلاب! الآن حانت ساعة الحقيقة. قبائل آيت ميمون في طريقها إليكم. إنهم لن يأتوا لتعليمكم أو وعظكم، بل ليأخذوا أرواحكم إن استطاعوا. وفي أفضل الأحوال، سيأخذون أموالكم وستُضطَرون إلى التَّسول. ستقولون ليس لديكم مال؟ حسنًا! لكن لديكم المعرفة، الكثير من المعرفة. ستضيع هذه المعرفة هنا، إذا قُتِلتم. ولكن إذا نجا واحد - أقول، واحد منكم - فسيكون بإمكانه أن يوصل هذه المعرفة إلى أقوام آخرين؛ إنه سيُنير الطريق لأُناسٍ لا تعلمونهم. فاختاروا الآن! الإختيار بأيديكم.! أما أنا، فقد اتخذتُ قراري - سأعبر الوادي - الوادي الذي نسميه إگري وتسمونه أنتم تانسيفت. سأعبره أنا ومن يريد منكم أن يأتي معي؛ وإلا، فسأذهب وحدي! لِيَحْفظِ الله أزلو!
    وما أن نزل مُحَمّادْ من على الصخرة حتى صاح إسماعيل: سنذهب معك يا معلم! سنعبر الوادي معك! ثم صاح طالب آخر: الله أكبر! ثم عَلت صيحات الجميع بالتكبير والتهليل، قبل أن يرفعوا أصواتهم مُرددين شعارهم: "الله خلقني، الله رزقني، الله علمني، الله هدانى"...
    وفي تلك اللحظة، خرج رجل عجوز من بين صفوف رجال القرية الذين جاءوا لسماع كلام مُحَمّادْ ثم خطا بخطى مُتعثرة نحو مُحَمّادْ وقال:
    - هل تنوي حقًا عبور إگري؟
    قال مُحَمّادْ:
    - نعم، يا عَمّ!
    - يا لَه من أمرٍ مُضحك! إن أمركَ لغريب! أنا صدقتُك عندما قلتَ إنك لست أحمقًا لكونك أحببتَ يطّو. أما الآن فأنا أعتقد أنك مجنون! تريد عبور إگري في هذا الوقت من العام؟ اذهب واعبُره!
    أثارت كلماتُ الرجل العجوز ضحكات رجال القرية. ألقى مُحَمّادْ نظرة أخيرة عليهم واستدار بخطواته نحو الوادي، بينما ملأ الطلاب الفضاء بإنشادهم شعارَهم. وما هي إلا لحظات حتى بدأ مُحَمّادْ يسمع أصوات أطفال. هم أيضاً انضموا إلى الهتاف.
    ولمّا أن وصلوا إلى الوادي، واجه مُحَمّادْ الطلاب وقال:
    - في المرة السابقة قطعتُم هذا القصبَ واستعمَلتُموه لبناء بيوتاتِكم. الآن اقطعوه لتصنعوا منه قوارب. الماهرون منكم سيُعَلِّمون إخوانهم. واسمحوا لي أن أُذَكِّركم مرة أخرى بأن الله ينصر من لا يملُّ دعاءه بالنصر. فاسألوا الله أن ينصركم!
    ثم التفت إلى الأطفال وقال:
    - وأنتم أيها الأطفال الأعزاء! إذا كنتم تريدون عبور الوادي معنا، فأرجو أن تُعينونا، من فضلكم. أَمِدّونا بأكبر عدد ممكن من المناشير والسكاكين والحِبال! أنا في انتظاركم!
    أومأ الأطفال برؤوسهم ثم جَرَوا باتجاه منازلهم.
    وفي غضون أقل من ساعة، كان الطلاب منهمكين في قطع القصب والدوم وجذوع النخيل.
     
    وفي منتصف النهار، اصطف الأطفال للصلاة خلف الطلاب. وبينما كانوا يُصَلون، سمع مُحَمّادْ أصوات خطوات مسرعة. فلمّا سلَّم، نظر إلى يمينه متسائلاً إن كان في حُلم. فقد كان هناك حشدٌ من الفتيان، عشرة أو يزيدون، كانوا ينتظرون وأعينهم تنظر إليه نَظَرَ من ينتظر النجدة. وكان من بينهم سْعيد، فتًى في السابعة عشر من عمره، عَرفَ أنه شقيق يطّو. قام مُحَمّادْ وتوجه بخُطًى ثقيلة نحو الفتية وقال بصوت مرتعش يغلب عليه التأثر لِما رأى:
    - هل ستنضمون إلينا؟
    ففاجأَه سْعيد بالثقة التي لَمسها في صوته وهو يقول:
    - أجل، إذا كنتم بحجة إلينا.
    فرَكّز مُحَمّادْ نظره على سْعيد وكأنه ينظر إلى أخته، ثم قال بصوت مُفعَم بالعاطفة:
    - سنكون مُمتَنين لكم، إذن!
    فقال سْعيد بلهفة:
    - وماذا علينا أن نفعل؟
    - حسنًا، نحتاج إلى القصب والدُّوم وجذوع النخيل والحِبال لكي نَصنع قوارب ومراكب. سنستخدم هذه القوارب لعُبور الوادي. أنا أعلم أن هذه العملية تنطوي على مخاطرة. لكن ليس لدينا خيار آخر.
    قال سْعيد وهو ينظر إلى الأولاد الآخرين: حسنًا!
    قال مُحَمّادْ: سنحتاج أيضًا إلى بعض الطعام والماء.
    قال سْعيد، وهو يشير إلى الأولاد ليتبعوه: سمعاً وطاعةً!
    بقيَ مُحَمّادْ ينظر إليهم بعينين يُنيرهما السرور حتى اختفوا في الطرف الآخر من القرية.
     
     

    الفصل السادس
  • الفصل السابع
  • الفصل الثامن
  •  

  • النسخة   الإنجليزية

    YETTO  




Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire