الفصل السادس
صباحَ اليوم التالي كانت خمسةُ قوارب جاهزةً. تطلعت أنظارُ الطلاب والأطفال والفتيان والعديد من رجال القرية إلى مُحَمّادْ لَمّا وقف قُبالَتهم. قال وهو ينظر يميناً أو يساراً:
- الآن، سنضع أرواحنا بين يدي الله وسنُحاول عبور الوادي. لهذا أحتاج إلى متطوعين. أحتاج إلى رجال أو فتيان شجعان مستعدين للتضحية بحياتهم من أجل الآخرين. وسأكون أنا أولَ اليتطوعين. سأكون في الصَّف الأمامي.
هذه خمسة قوارب جاهزة. سأصعد على مَتن إحداها. وهذا القارب سينطلق في المقدمة. وهو سيَجُر وراءه قاربًا آخر، هو بدوره مربوط بحبل إلى القوارب الأربعة الأخرى. أما القارب الثاني، والذي سَيتبعُ مباشرةً القاربَ الأول، فهو أيضاً مربوط بحبل إلى قارَبٍ من كل جانب. وهذه القواربُ التي هيَ في الجوانب الأربعة ستُساعِدُ القاربَ الأوسطَ على البقاء ثابتًا أثناء تحركه.
في رحلتِنا الأولى، سيذهب رجل واحد فقط في كل قارب. ولكن إن سارت الأمور على ما يُرام، إن شاء الله، فإن كل قارب من القوارب التي في الجوانب الأربعة سيحمل خمسة رجال. بينما ستركبُ امرأةٌ وطفلان أو ثلاثة أطفال في القارب الأوسط. لن تُضْطَرَّ النساء والأطفال إلى التجديف. ولكن على كُلٍّ مِن القواربِ الأخرى سيجلسُ رجُلان على جانِبَيِ القارب وسيجلسُ الخامسُ في المقدمة، ويجب عليهم جميعًا التجديف والتأكد من ثَبات جميع القوارب وتحَرُّكها إلى الأمام بشكل مستقيم.
إذَن، كما قلت، سأذهب أنا أولاً. ثم يتبعُني ثلاثة في وقت واحد. وسيتحرك الخامس عند إشارتي.
والآن، من منكم سيأتي معي؟
قال إسماعيل رافعًا يده: أنا!
ثم قال سْعيد بحماس: وأنا!
ثم هَبَّ ثلاثةُ طُلابٍ وأنزلوا القوارب إلى الماء، بينما رفع باقي الطلبة أصواتهم بالتكبير وبترديد شعارهم: "الله خلقني، الله رزقني، الله علمني، الله هدانى"...
في تلك اللحظة، أخذ إسماعيلُ مُحَمّادْ جانبًا وقال له:
- لا أعتقد أن النساء والأطفال سيكونون آمنين على مَتن القارب الأوسط دون أن يكون معهم على الأقل فَتَيان يُجَدِّفان القارب لهم.
- سنُجَرِّبُ ذلك الآن ونرى ما سيحدث. وشكراً على نصيحتك.
بقلبٍ ينبضُ بمشاعرَ يختلط فيها الحماس بالقلق، خطا مُحَمّادْ نحو القارب ثم جلس وسطه وبدأ في التجديف. تمايل القارب قليلاً، لكنه سُرعان ما استقام وانطلق. ثم ارتجف فجأة. للحظةٍ، توقَّف القارب تماماً. شعر مُحَمّادْ بثِقل القارب الذي انطلق للتَّو خلفه. ولكن بعد ذلك، بدأ قاربُه يتحركُ مرة أخرى شيئًا فشيئًا. وبدون أن ينظر إلى الوراء، رفع يده إشارةً للقارب الخامس كَيْ يتبعه.
لم يمُرَّ وقت طويل حتى لامست حافّةُ قاربِ مُحَمّادْ القصبَ على الضفة الأخرى. لكنه استمر في التجديف حتى وصل إلى صخرة صلبة، فوضع قدمَه عليها. ثم بدأ يسحب القارب الأوسط حتى أمسك بِيَد سْعيد. وفي تلك اللحظة، كادت صيحاتُ "الله أكبر!" أن تصم آذانه.
قال مُحَمّادْ فجأة: الآن، أخبِرني يا سْعيد، هل كان عليك أن تُجَدِّفَ قاربك؟
- نعم، فعلت.
- هل يمكنك التجديف الآن؟
- نعم، إذا أردت.
- حسنًا! الآن، من فضلك، ارجع وأخبِر رجال القرية أن ينضموا إلينا. أخبرهم بأنا بحاجة إلى أن يساعدونا في صنع القوارب والحبال والمجاديف. وأخبرهم أننا سنحمل النساء والأطفال أولاً، ثم كبارَ السن، ثم أمتعة الناس، ثم الرجال والصبيان، أسَمِعتني؟
- حسنًا، سيدي!
إذَن اذهب على بركة الله! انتظر لحظة! ارجع في هذا القارب الذي جئتُ فيه.
لم ينتظر مُحَمّادْ هناك ليشاهد سْعيد وهو يعود إلى القارب ويَعبر إلى الضفة التي جاء منها. ومن شِدة تأثُّره، كان مُحَمّادْ على وشك البكاء، ولم يكن لِيرضى أن يرى سْعيد دموعه، على الرغم من أنها كانت دموعَ فرح. لذلك تسلَّل وسط القصب واختبأ وبكى حتى ارتوى قلبه.
ثم فجأة، سمعَ صوتَ إسماعيل يتردد من خلال القصب. هرع إليه مُحَمّادْ وقد أصابه الذهول، وقال:
- ما الأمر؟
- أردتُ فقط أن أعرفَ أين أنت.
- ها أنا ذا! وبَعْدُ؟
- ماذا سنفعل الآن؟
- حسنًا، اسمع! ارجع إلى الجانب الآخر! أرسِل إليَّ أربعة طلاب لمساعدتي في فَتح مسارات وَلَوْ ضيقة عبر القصب حتى يتمكن الناس من الخروج من هنا. ثم قَسِّم الرجال إلى مجموعات صغيرة وأَرِهِمْ كيفية صنع القوارب، وما إلى ذلك. دَع سْعيد يُنظم أهل القرية، وخاصة النساء والأطفال. إذا سألوك عن أمتعتهم، أخبرهم أننا سنحمل ما نستطيع لاحقًا. الآن اذهب
قبل أن أذهب، يا معلم! لدَيَّ فكرة.
- نعم؟
- أعتقد أننا نستطيع أن نصنع قوارب أكبر يمكنها أن تستوعب أكثر من خمسة أشخاص. وأعتقد أننا لا نحتاج بالضرورة إلى خمسة قوارب في كل رحلة لنقل ثلاثة أو أربعة أشخاص. وماذا لو صنعنا قوارب من جذوع النخيل بدلاً من القصب؟
- حسنًا! افعل ما بِوُسعك! اذهب الآن
كان مُحَمّادْ مشغولاً بقطع القصب عندما وقف أحدُ الطلاب الأربعة الذين معه فجأة وقال:
- انظروا هناك! النساء قادمات!
ألقى مُحَمّادْ القصبَ والمنشارَ ونظر إلى النساء وهُن يتجهن نحو الرجال الذين كانوا مشغولين بالعمل على القوارب. ثم مشى وهو يتعثر حتى وصل إلى حافة المياه وأشار إلى الطلاب بإرسال قاربٍ له على الفور.
جاء القاربُ وقفز مُحَمّادْ إلى داخله وجذَّف إلى الضفة الأخرى. كانت كلُّ العيون عليه، لكن عينيه هو كانتا ثابتتين على النساء. هرع سْعيد إليه وقال:
- ماذا سنفعل الآن يا سيدي؟
- سنبدأ في إجلاء النساء والأطفال. ولكن قُل لي: أين يطو؟
قال سْعيد مندهشا:
- لا أعلم.
- هل يمكنك أن تبحث عنها وتُبْقِيَ نظرك عليها من أجلي؟ أنا قلق عليها.
- لا تقلق عليها، سيدي.
ثم التفت مُحَمّادْ إلى الرجال وتنَهد. فقد رأى والدَه بينهم. هرع إلى جانبه وجلس القُرفصاء وقال:
- أبي، من فضلك، حاول إقناع كل الرجال المترددين بالعبور معنا. كل شيء سيكون على ما يرام، إن شاء الله.
واصل والدُه عمله ولم يَقل شيئا. في تلك اللحظة، صاح أحدهم: حسن عاد! حسن عاد!
وقف مُحَمّادْ على قدميه ونظر حوله. التقت عيناهُ بعينَي حسن. ابتسم مُحَمّادْ وفتح ذراعيه. اندفع حسن نحوه كطفل. وبعد العناق، قال حسن بصوت خافت:
- أنا آسف،. أنا - أنا -
- انْسَ ذلك وانزل إلى العمل! سيُريك إسماعيل ما يجب عليك فعلُه. لكن أخبرني، أين الآخرون الذين كانوا معك؟
- إنهم يختبئون هناك.
- أوه! سْعيد، اذهب وأخبرهم أن يأتوا على الفور!
بعد ذلك بقليل، نزلت امرأة وطفلان صغيران إلى الوادي. ساعدهم إسماعيل وحسن على الصعود إلى أحد القوارب الخمسة التي تَم تجهيزُها لهم. ثم قفز فَتيان إلى القارب، وجلس كل منهما على أحد جانبيه وأمسك بالمجداف. امتزجت صيحات "الله أكبر!" بصيحات الفرح الهادرة بينما سارت القوارب الخمسة بسلاسة عبر الوادي.
وصل القارب الأوسط بسلام، والتفت مُحَمّادْ إلى الطلاب وقال:
- الحمد لله أن كل شيء سار على ما يرام. الآن، من فضلكم، أريد أن ننقل معظم النساء والأطفال قبل الغسق.
- حسنًا، يا معلم!
تمشى مُحَمّادْ على طول حافة القب وهو يفكر. ثم فجأة، لحق به إسماعيل، وقال بصوت مرتجف: يا معلم!
قال مُحَمّادْ مذهولًا: ما بِك؟
- هل تثق في حسن؟
- لِم لا، إنه قائد عظيم!
- لكنه من آيت ميمون!
- وما الضَيرُ في ذلك؟
- أنا قلق.
- لدي خطة. لا تقلق!
استدار إسماعيل ليذهب. بقي مُحَمّادْ ينظر أمامه في صمت. ثم تحول نظره إلى حسن، الذي كان يساعد النساء والأطفال المتزاحمين من أجل نقلهم إلى بَر الأمان. خطا مُحَمّادْ خطوات. رآه حسن يقترب منه. التقت أعيُنهما. لوَّح له مُحَمّادْ بيده. صاح حسن مندهشًا: هل تريدني؟ أومأ مُحَمّادْ برأسه. تقدم حسن نحوه، وقال:
- ما الأمر يا معلم؟
قال مُحَمّادْ بصوت مرتجف:
- أريدك أن تعبر إلى الجانب الآخر.
- ألا تثق بي يا مُحَمّادْ؟
- هل ستعبُر أم لا؟
كان مُحَمّادْ يرتجف بكل عضوٍ من جسده. قال حسن وهو يبتعد باتجاه النساء: لا!
لعَن مُحَمّادْ نفسه على ما بَدا وكأنه خطأ من جانبه. وانتقل بخطى غير واثقة نحو إسماعيل. لَفَّ مُحَمّادْ ذراعه حول ظهر إسماعيل بحزن وقاده نحو بقعة مُعشَوشبة. قال مُحَمّادْ ووجهه مُحمَر بالحرج:
- لِنجلسْ هنا!
- حسنًا يا معلم!
الآن، ما سأخبرك به لَم ولَن يَطَّلعَ عليه غيرُك. استمع جيدًا!... وهكذا أخبر مُحَمّادْ إسماعيلَ بكل ما كان ينتظر منه فعلَه بمجرد وصوله إلى الضفة الأخرى، ثم قال: اذهب الآن على بركة الله! ولا تهتم بحسن أو أي شخص آخر! إذا رحلتُ أنا عن هذه الدنيا، فأنت من سيقود الناس..
عبَر إسماعيل الوادي. هرع حسن إلى مُحَمّادْ وقال:
- أنا آسف يا معلم.
قال مُحَمّادْ وهو يبتعد: لا تهتم!
جاء سْعيد وألقى التحية. فقال مُحَمّادْ، وقلبه يكاد ينفجر من الخفقان:
- ما الأمر؟
- يطّو لا تُريدُ العبور معنا!
قال مُحَمّادْ وهو يلهث:
- أين هي؟
- إنها هناك!
هرع مُحَمّادْ إليها. كانت تقف بمعزل عن النساء الأُخريات، اللاتي كُنَّ مشغولات بالطهي. فقال:
- سْ- سْ - سْ - سْ - سْعيد أخبَرني أنكِ لن تعبري معنا. هل هذا صحيح؟
- أجلْ.
- لماذا؟
- أنا خائفة!
التقطت يطّو حزمتها وسارت خلف مُحَمّادْ، الذي استدار نحو سْعيد وقال:
- اذهب وأَعِدَّ لنا قاربَ حسن!
- حسنًا.
وبينما كان سْعيد يبتعد، التفت مُحَمّادْ إلى يطّو وقال بصوت مرتجف:
- سنأخُذ قاربًا كبيرًا، يطّو. لا تخافي من أي شيء! ولكن ما الذي تحملينه بين ذراعَيك؟
- إنها أغراضي الشخصية.
- أوه، لا، يطّو! اترُكي هذه الحزمة هنا! سنحمل جميع الأمتعة لاحقًا.
- لا أستطيع. يجب أن آخذها معي!
- ولكن-
لم يستطع مُحَمّادْ إكمالَ جُملته. ففي تلك اللحظة أنزلت يطّو حجابها ونظرت إليه مباشرة في عينيه.
أمسك مُحَمّادْ بالقارب بينما ساعد سْعيد يطّو على الصعود إليه. ثم صعد مُحَمّادْ إلى القارب وجلس بالقرب من يطّو وبدأ التجديف. الآن، أزالت يطّو مُعظَم الحجاب، وبالتالي أمكن لمُحَمّادْ أن يرى المزيد من وجهِها مرة أخرى. وبحث في ذلك الوجه عن أيِّ علامة على الحُب. لم تَظهر تلك العلامةُ حتى وقف علي الصخرة الصلبة لمساعدتها على الخروج من القارب. عندها ابتسمت ابتسامة جعلت قلبه يَخفق خفقانا وقالت: شكرا لك! حزمتي، من فضلك! سَلَّمه سْعيد الحزمة وهو مَرَّرَها إليها بيديه المرتعشتين.
شَعرَ مُحَمّادْ بسعادة لم يشعر بمثلها قطُّ وهو يسير على مَهلٍ بين يطّو وشقيقها على طول الطريق الفارغ. ولكن ما إن وصلوا إلى المكان الذي كان قد تَجمَّع فيه النساء والأطفال حتى هَبَّ إليهم حشد غاضب، أتى عبرَ الحقول المحروثة. وانضم إليهم على الفور إسماعيل والطلاب الأربعة الآخرون. قال صوت من الأصوات: ماذا تفعلون هنا على أرضنا؟
فقال إسماعيل وهو يلهث: لقد فرَرنا بأرواحنا من غزو وشيك من آيت ميمون!
فَردَّ الرَّجل بنبرة غاضبة: أين آيت ميمون؟ نحن لا نرى سوى سُكان أزلو!
رفع مُحَمّادْ يده وانتظر إلى أن هدأت الضجة. ثم قال:
- أيها السادةُ الكِرام! نحن جيرانٌ قبلَ كل شيء. من فضلكم امنحونا فرصة! حاولوا الانتظار لمدة أسبوعين، لا أكثر! إذا جاء آيت ميمون، فساعِدونا حتى يرحلوا عنّا. وإذا لم يأتوا، فسنعود إلى قريتنا ونُعَوِّضكم عن كل الضرر الذي نُلحِقه بأراضيكم الآن. لذا يُرجَى التَّحَلي بالصبر معنا!
قال أحد الأصوات:
حسنًا! سنَنتظر ونرى.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire