الفصل الرابع
مَسَح مُحَمّادْ دُموعه والتقط الدجاجة وركب بغلته وذهب إلى السوق. وفي الطريق، تساءل عمّا يمكنه أن يفعل بالخمسة والستين درهماً التي كانت تدفِء جيبَه. ولكن ما أن اقترب من السوق حتى وجد نفسه يفكر في حسن.دخل السوقَ فأتاهُ مُتسول في ثياب رَثّة. قال له مُحَمّادْ: هاك! فبَقي المتسول ينظر فاغراً فاه إلى الدجاجة التي مَدَّ إليه مُحَمّادْ. صاح الرجل: هذه لي؟ تبَسم مُحَمّادْ لِتَعَجُّبِ المتسول وقال: نعم، هي لك! انتزع المتسول الدجاجة وبدأ يدعو لمُحَمّادْ، ثم ابتعد عنه. فجاء متسول آخر إلى مُحَمّادْ ومَد يده. ابتسم مُحَمّادْ وأعطاه خمسة دراهم. ثم خفض بصَره وتوجه نحو سوق الأنعام.وقف هناك، مُمسِكاً بعِقال بغلته وانتظر بصبر إلى أن جاء من اشتراها منه.باع البغلة وقفل راجعاً إلى أزلو. خاطب نفسه وهو في الطريق: لقد أصبحت الآن حراً. أستطيع أن أنام حيثُما أريد. لن أذهب إلى مَناطقهم المحظورة. لكنني لن أبتعد عن أزلو. ها أنا هُنا وهُنا سأبقى. لن أطلب طعاماً إلى أحد. ما عندي من مال يكفيني حتى فصل الشتاء.لكنه تنَهد. فَعَينا يطّو جاءتا لِتَتبوَّآ مكانهما من أفكاره. فشغلت يطّو باله وبقي يفكر فيها إلى أن صاح فجأة: الله خلقاني،الله رزقني، الله علّمني، الله هداني...في صباح أحد أيام الاثنين، كان مُحَمّادْ يتمشى على طول حافّة القصب. وفجأة، توقف وأرهف السمع. ما هذا؟ فقد تعجب لِما وصل إلى أذنيه من أصوات غريبة. فقال في نفسه: ما عساه يكون ما أسمع؟ من يكون هذا؟ مشى خطوات إلى الأمام ثم توقف مرة أخرى. فقد كانت أصواتٌ غريبة تأتي من المكان الذي كان فيه كوخه ذاتَ يوم. فَكر على الفور في حسن. لكن استبعد ذلك وقال في نفسه: صوتُ رجلٍ واحد لا يُمكن أن يُحدِث كل هذا الضجيج. هذه أصواتُ رجال كُثر، إذا لم أُخطىء. فَتابع طريقه نحو مصدر الصوت وأسرع الخُطى هذه المرة. فصارت الأصوات أكثر وضوحاً. لقد كانوا رجالاً يُردّدون: الله خلقني، الله رزقني، الله علمني، الله هداني... وكانوا جالسين في شكل دائرة، مُتربِّعين وأعينهم تنظر إلى الأرض. كانوا جالسين إلى جانب كومة الأنقاض، وكان حسن بينهم. لمعت عينا مُحَمّادْ بالدموع وهو يجلس معهم وينضم إلى إنشادهم. وفجأة، سكت حسن ورفع يده. نظر إليه الآخرون جميعاً وظلوا صامتين. مُحَمّادْ أيضاً نظر إليه ولمّا التقت أعينهما، تبسّم كلاهما. فقال حسن: ها أنا ذا قد عُدتُ! فرد عليه مُحَمّادْ بصوت يظهر عليه الإضطراب: أنا سعيد بلقائك مرة أخرى!قالها مُحَمّادْ بصوت مكسور، وهو لا يجد شيئا آخر يقوله. فحدّق فيه حسن طويلا ، ثم قال:- ماذا حدث لكوخك يا مُحَمّادْ؟- جئتُ ذاتَ ليلةٍ من توشكي ووجدت الكوخ يحترق.- إلى أين ذهبت إذن؟- ذهبت من مكان إلى آخرَ على طول حافة القصب، كل ليلة أنام في مكان مختلف.- كم مرّةً تأتي إلى هنا؟- يوميًا تقريبًا.- لكننا إلى هنا جئنا بالأمس وأول أمس، فَلم نجدك.- كما تعلم، لقد نزلت أمطار مؤخرًا هنا. فنتج عن ذلك أن جلبابي اتّسخ وتلَطّخ بالوحل، فكان عليّ أن أخلعه لأغسله في ماء النهر، واضْطُررت إلى الانتظار حتى يجف. كان اليَومان الماضيان مشمسين، كما ترى.- ولماذا لم تبنِ لك كوخًا جديدًا؟- لا أستطيع.- ولماذا لم تغادر هذه القرية وترحل؟- لا أستطيع.- لِم لا؟- أنت تعرف السبب!- نعم، أعرف. وهذا ما قلته للرجال الذين معي. قال لي بعضهم إنك لن تعود أبدًا. لكنني كنت واثِقا من أنك لن تبتعد عن هذه الناحية. والآن أنا سعيدٌ بلِقائك مرة أخرى. وقد أحضرتُ لك تسعة طلاب. أخبرتهم عنك، ورغبوا جميعًا في رؤيتك. وسيلحق بهم آخرون. آمل أن تكون مستعدًا لنا.- أنا أسعَدُ منكم بلقائكم. لكن المشكلة هي أنني لا أملك مأوى.- هذان الرجلان هنا لديهما مال. (أشار حسن إلى رجلين على يمينه.) وهما بإمكانهما أن يكفِيانا مؤونتنآ جميعًا. سنرى كيف سنُدبّر الأمر. والآن، أخبِرنا يا مُحَمّادْ، لماذا تقول: الله خلقني، الله رزقني، الله علمني، الله هداني... ؟ابتسم مُحَمّادْ وقال:- حسنًا، عندما أقول الله خلقني فأنا أُدركُ بإحساسي بأنني موجود بالفعل، وأن لِوُجودي معنىً، وإلا لَما كان الله قد عنّى نفسه بخَلقي في المقام الأول؛ وبما أن الله خلقني بشراً، إنساناً، شخصاً آدميّاً، فيُتَوَقَّعُ مني إذن أن أتصرف بالطريقة التي أراد الله أن أتصرف بها، أي كإنسان، وليس كحيوان. وعندما أقول الله رزقني فأنا أُذَكِّر نفسي بأنه لا داعيَ لِأن أقنطَ أو أن أَحمِل هَمَّ مُستقبلي، لأن الله الذي خلقني، هو سُبحانه وتعالى، تكَفل برزقي أيضًا حتى قبل أن أدرِك أن الناس يجب أن يعملوا ليكونوا قادرين على إعالة أنفسهم أو أحبائهم. وبما أن الله فعل هذا من أجلي في الماضي، فهو قادر أيضًا على القيام بذلك من أجلي في الوقت الحاضر وفي المستقبل. لذلك لا ينبغي لي أن أقلق كثيرًا بشأن المستقبل. وعندما أقول الله علّمني فإني أُدركُ بإحساسي بأن هذا أذكر في حد ذاته نعمةة عظيمة، إذ ليس كل الناس متعلمين، وليس كل المتعلمين يستخدمون معرفتهم بشكل جيد. وهذا ما يزيد وَعيي بأن الله يُريدني أن أتعلم المزيد والمزيد عنه وعن نفسي وعن الحياة وعن العالم من حولي. وكلما فكرت في هذا، أجد نفسي أتذكر الماضي: أتذكر كيف كنت وكيف أصبحت ما أنا عليه اليوم. أتذكر المصاعب التي مررت بها؛ أتذكر اللحظات السعيدة التي عشتها في الماضي؛ أتذكر مئات الأشخاص الذين تعرَّفت عليهم طوال حياتي أو عاشرتهم؛ أُفكر في أحوال هؤلاء الناس: إلى أي حد هم سعداء أو تعساء؛ أفكر في كل هذه الأشياء وأتأملّها مرارًا وتكرارًا، وبِذا أُحاول تهدِئةَ نفسي. وعندما أقول الله هداني فإنما أتذكر أنّ عليّ أن أَقصِد وِجهة لا ينبغي لي أن أحيد عنها؛ هناك إذَن أشياءُ يجب أن أفعلها وأشياء أخرى يجب أن أجتنِبها، وأُسائِل نفسي باستمرار إنْ كنت سائراً على الطريق المستقيم. وبينما أنا أفكر بهذه الطريقة، أجدني أمزِج الماضي بالحاضر والمستقبل وأُحاول أن أرى كيف يمكنني أن أعيش الحاضر على أفضل وجه، على أَمَلِ أن يكون المستقبل أكثر إشراقًا. وهذا كل شيء!- وماذا عن الحب يا مُحَمّادْ؟تنهد مُحَمّادْ وقال:- أنتَ تعرفُ قصةَ يوسف عليه السلام، أليس كذلك؟ كان يوسفُ أجملَ رَجل في زمانه. عاش جزءًا كبيرًا من حياته في قصر. بالنسبة لي ولك، هذه هي السعادة. لكن بعد ذلك، ابتُلِيَ بالسجن ولبِث فيه سنوات عديدة. رُبما ضاعت أزهى سنواتِ شبابه في السجن. بالنسبة لي ولك، هذه هي التعاسة. لكن بعد ذلك خرج يوسف من السجن وآتاه الله من الملك. بالنسبة لي ولك، هذه هي السعادة، أليس كذلك؟ لقد عانى يوسف كثيرًا، ولكن في النهاية مات رجلاً سعيدًا. ماذا عسانا نرجو أكثر من ذلك لو كنا مكانَه؟ كل ما نطمح إليه أنا وأنتم هو أن نعيش حياة سعيدة. لكن الله يقول، كلا! هناك حياة أَسعَد بكثير، حياة سعيدة أبدية. وهذا سُليمان عليه السلام، كان عنده كل ما يُريده، كل ما يمكن أن يَحلمَ به إنسانٌ على الإطلاق. أليست هذه هي السعادة؟ فما الذي كان سليمانُ ليَطلبَه بعد أن حصلَ على كلِّ ما كان يريد؟ كلا! هناك حياة أسعد بكثير، حياة سعيدة أبدية. وهذه الحياة الأُخرى لم تُخلَق ليوسف أو سليمان فقط. بل إنها خُلِقت لنا جميعًا. السؤال هو: لماذا يَمنحنا الله حياةً طيبة أخرى إذا كُنا قد عِشنا حياة طيبة بالفعل؟ أتعلمون لماذا؟ لأنه رَبٌّ ودود. لأنه إلهٌ عظيم. لأنه غفور شكور. الله لا يَدين لنا بشيء. بل نحن مَدينون لله بكل شيء. نحن لا نُعطي اللهَ شيئاً. الله هو الذي يُعطينا كل شيء. كل ما بنا من نِعَمٍ فهي من الله. هذه هي الحقيقة. نحن لا نمنح الله شيئا. بل الله هو الذي غَمَرنا بِمِنَحه التى لا حصر لها .نَحن، للأسف، سَريعو النسيان. ربما لأننا لا نرى الله. لكننا نرى خَلقَ الله، أليس كذلك؟ عندما ترى امرأة جميلة، فَكل ما تراه هو تلك المرأة الجميلة. وإذا وقعتَ في حبها، فإنك لن تفكرَ إلا فيها. ستصبح هي كلَّ شيء بالنسبة لك. ستُفكر فيها؛ ستَقلق عليها؛ ستتمنى لها أحلى وأغلى ما في الوجود - وفي النهاية قد لا تُفكر هي فيك، ولا تُعيرك اهتماما. وقد تفكر في شخص آخر. أنت تُحبها، وتعطيها كل شيء، ومع ذلك هي تفكر في شخص آخر. تمامًا مثل حالنا مع الله: هو يحبنا، ويعطينا كل شيء، ومع ذلك نحن نفكر في غيره. ولكن عندما أقول، الله خلقني، الله رزقني، الله علمني، الله هداني...، فإني ينتابني شعورٌ بأني كنتُ أحرِق قلبي من أجل من لا يستحق. وكلما زاد شعوري هذآ، زاد حبي لله وزاد اعترافي بمَنه وأفضاله. قد تنسى حبيبتك، وربما تحب غيرها بعدها، - من يدري؟ - لكن حُبكَ لله سيزيد قوة مع مرور السنين. ستتزوج يومًا ما، وستكون زوجتك بجانبك، وحينها سيكون هناك مُتَّسعٌ كبير لله في قلبك. ستُحب الله أكثرَ من أي شيء آخر. سيكون الله أحَبَّ إليك مِما سواه !التفَت حسن إلى الطلاب الآخرين الذين كانوا يُنصِتون باهتمام، وقال:- ما قولكم في ما سَمِعتم؟قال أحد الطلاب:- أعتقد أنَّنا كُنا على حَق و صواب عندما جئنا إلى هنا! أعتقد أنَّ علينا الذهاب وإحضار دَوابِّنا من الفندق.وقال آخر:- علينا أن نَبنيَ مدرسة أو على الأقل سَقفا ندرُسُ تحته هنا.قال حسن وهو ينظر إلى مُحَمّادْ:- معك حق! سنُقاتِل إذا لَزِم الأمر! ولكن يجب أن نَبني أكواخًا أو حتى منزلًا كبيرًا لنُقيم فيه ما دُمْنا هنا.أبدى مُحَمّادْ استغرابه، فقال له حسن:- ألا توافقني الرأي يا مُحَمّادْ؟- أعتقد أنه ليس من السهل مواجهة الناس هنا. لا أدري ما قد يحصُل.قال حسن وهو ينهض على قدميه:- إذن، اترك الأمر لنا! بإمكانك أنت أن تبقى هنا يا مُحمّادْ. سأذهب أنا والطلاب لمقابلة أهل القرية وسنَرى كيف يمكننا حل المشكلة.ما زاد مُحمّادْ على أن فَغَر فاهُ وبقي في مكانه ينظر إلى الطلاب و هُم يتوجهون نحو المسجد. ساروا جميعا في صفين خلف حسن.وبعد حوالي ساعة من الزمن، عاد الطلاب وهُم يُردّدون "الله خلقني، الله رزقني، الله علمني، الله هداني..." فقام مُحمّادْ لِتَوِّه واستقبلهم بوجه بشوش. كانوا جميعا مبتسمين مُستبشِرين. فقال حسن والإبتسامة تعلو محيّاه:- سنُعيد بناء مسكنك. وسنبني لنا بيوتا إلى جانبك. وسنبني أيضا قاعة كبيرة للدّرس وقاعة صغيرة للصلاة.فتعجّب مُحمّادْ من قوله، وسأل:- ولكن أين ستبنون كل هذا؟فرَدَّ عليه حسن مبتهجا:لا عليك! سنبني كل شيء هنا! ألم أقُل لك إن من بيننا رجلين غَنيّين؟ ثم دعني أقول لك إن أهل قريتك ظنّونا مجانين. فهم لا يعتقدون أننا سنبقى هنا طويلا، لأن موسم الأمطار قد بدأ، وإذا نحن لم نرحل قريبا، فسيُجبرنا المطر على الرحيل. هذا ما يظنون.فابتسم مُحمّادْ لسماع هذا الكلام وقال وهو يتحول نحو القصب:- إذَن فلنبدأْ، على بركة الله!فقاطعه حسن قائلا:لا، بل علينا أن نأتي بدوابّنا أولا! تعال معنا!فذهبوا جميعا إلى الفندق الذي ترك فيه الطلاب دوابهم، ذهبوا وهم يمشون خلفَ حسن ومُحمّادْ، مُردّدين "الله خلقني، الله رزقني، الله علمني، الله هداني..."لم تمُرَّ إلا أيام قليل حتى تضاعف عدد الطلاب، فصارت بيوتهم تُغطي كل المكان بين القصب والمقبرة. وبدأ مُحمّادْ يشعر بالقلق.وفي أحد الأيام، جاء الرجلٌ من قرية توشكي الذي كان مُحمّادْ قد علّمه الحساب. جاء ووقف عند باب قاعة الدرس (الذي كان الطلاب يُسمّونه مدرسةً)، وقال إنه يريد الجلوس معهم قليلًا. فأشار إليه مُحمّادْ بالدخول. وما أن جلس الرجل حتى رفع حسن يده وقال:- ما رأيك في الحُكام هذه الأيام يا معلم؟فهِم مُحمّادْ التلميح وابتسم، ثم قال:- اسمع، يا أخي! ما الحكام إلا أُناسٌ ضعفاء مثلي ومِثلكم. الحكام أيضًا يعانون تماما مثلي ومثلكم. إنهم يعانون لأنهم لا ينالون دائمًا ما يريدون. كلنا نحلم - إلا من رحم ربنا - بالغنى والشهرة والسلطة والمجد. وهذا ما يسعى إليه مُعظم الحكام. ولكن هذه مشكلَتُهم. أنا شخصيا لا أريد أن أكون ثَريًا؛ لا أريد أن أكون مشهورًا. لا أريد أن أحكمَ أحدًا. إلا أنني أحترم الحكامَ وأُقَدِّرهم لأنهم يمتلكون الشجاعة لِفعل ما لا أستطيع أنا فعلَه. ليس من السهل أن تحكم الناس وتُدبر شؤونهم. وأنا أشفق عليهم، في الحقيقة، لأن معظمهم يخسرون أكثر مما يكسبون. وغالبًا ما يتغير الحكام كما يتغير الجو في السماء، وكثير منهم يفقدون حياتهم جرّاء طموحاتهم. وهذا ما يُبهِرني في الأمر بِرُمّته. فأنت ترى دُولاً تنشأُ مِن لا شيء ودولا أخرى قائمة تتهاوى وتسقط. مملكةٌ تولد هنا ومملكةٌ تَبيدُ هناك. وكل مملكة - صغيرة كانت أم كبيرة - لديها ما تُقدمه؛ وبمجرد أن تُأدِّيَ وظيفتها، أي بتَقدم إضافة ما إلى البشرية، مادية كانت أم معنوية، فإنها تزول وتصبح في خبر كان. وما لاحظتُه هو أن الشيء المشترك بين جميع الممالك - صدِّق أو لا تصدق! - هو المعرفة. فأنت ترى الأُمةَ من الأمم، أو المملكة من الممالك، تُنتج علوما و معارف، وعندما لا يَبقى لديها المزيد لتُقَدمه، فإنها بكل بساطة تنهار أو تَضمحل وتضعف شوكتها. ثم تأتي أمة أو مملكة أخرى فتستحوذ على ما بين يديها من علوم ومعارف ثم إما تستفيذ منها لتعزيز سُلطانها أو تنشرها بطريقة أو أخرى وتنقلها إلى أنحاء أخرى من العالم، بحيث أن أمما أخرى يمكنها إغناء تلك العلوم والمعارف لفائدة البشر. وهكذا ترى أمةً تلو الأخرى تُساهم في إثراء معرفتنا: بالعالم، وبأنفسنا، والأهم من ذلك، بالله خالقنا. وهذا ما سيحدث في المستقبل: أمة تِلو الأخرى إما ستُنتج المزيد من المعرفة أو تنشرها في جميع أنحاء العالم من خلال الغزو أو الاحتلال أو التجارة. وهكذا سيأتي يومٌ يعرف فيه الناس في جميع أنحاء العالم الله سبحانه وتعالى. الآن، أنا أشعر أنني أعرف الله بالفعل. لذا فأنا لستُ بحاجة إلى أن أكون حاكمًا، أو أن أمُرّ بكل هذه العملية فقط للوصول إلى نفس النتيجة! فكل ما أتمناه هو أن تُنتِج دولَتُنا أدام الله عِزها أكبرَ قدر ممكن من المعرفة، أو أن تُوصلها إلى أكبر مساحة ممكنة. أسأل الله أن يُحقق لدولتنا هذا المسعى!فقال الجميع: آمين! ثم نظر مُحمّادْ إلى حسن وقال مبتسمًا:- هل عندكك سؤال آخر؟- لا يا معلم، ما قُلتَه يكفي. الآن يجب أن نملأ بطوننا بعد أن ملأنا عقولنا. إنه وقت الغداء!عندها، انفجر الطلاب بالضحك. ثم بدأ مُحمّادْ يُردد: "الله خلقني، الله رزقني، الله علمني، الله هداني...". فنهض رجل توشكي وخرج من القاعة وهو يقول بصوتٍ خافت: "الله خلقني، الله رزقني، الله علمني، الله هداني..."في وقت متأخر من تلك الليلة، كان مُحمّادْ مضطجعا على جنبه ويفكر في يطّو عندما سمع أصوات خطوات عند باب الكوخ. رفع رأسه فرأى حسن يبتسم ابتسامة تملأها البهجة. فألقى نظرة خاطفة على القنديل، ثم نظر مرة أخرى إلى حسن، الذي بقي واقفا عند الباب، ووجهُه يتلألأُ فرحاً. فقال مُحمّادْ:- ما الأمر؟- عبد العزيز وإسماعيل يريدان التحدث إليك.قال مُحمّادْ وهو يجلس: لِيَدخلا!دخل الطالبان وقالا بصوت واحد: السلام عليكم.فرد مُحمّادْ السلام وقال: ما الأمر؟قال إسماعيل: نريد مساعدتك.قال مُحمّادْ: بشأن ماذا؟قال عبد العزيز: بشأن الزواج.قال مُحمّادْ: أشكركم.ثم ساد الصمت، قبل أن يقول حسن فجأة: سيُعطيانِك بعض المال حتى تتمكن من الزواج.قال مُحمّادْ مبتسما: يُسعِدني سماع هذا!وكان على وشك أن يضيف شيئا لَما دوّى صوت رعد قوي السماء. فسكت مُحمّادْ، لكن حسن قال بلهفة:- فهل ستتزوج إذَن؟- بوُدّي أن أتزوج تلك التي أخبرتك عنها.(قالها مُحمّادْ وهو ينظر في عيْنَي حسن وكأنه يتحدى.)- وماذا لو رفض أبوهآ؟- لا أدري. الأمر متوقف على قلبي.قال إسماعيل بِحذر:- أنت تفكر بقلبك؟- أنا أفكر بعقلي، لكن عقلي يُخطئ أحيانا. قلبي لا يكون على حق دائما، لكنه يُصيب أحيانا.قال عبد العزيز:- أفهم من كلامك أن ليس لديك سوى خيار واحد.- حتى الآن، نعم.فقال إسماعيل:- أنت معلمنا وشيخنا. وقد جرت العادة أن يكون الشيخ متزوجا، ولا سيما إن كان في مثل سنك. بصراحة، العديد من الطلاب قالوا لي هذا.قال مُحَمّادْ بلطف:- وأنا لا أستغرب لذلك يا أخي إسماعيل. لكن لدي مشكلة. في الوقت الحاضر، أُحب امرأة، وهذه المرأة ما تزال عزباء. وطالما أنها لم تتزوج بعدُ، فلا يمكنني إخراجها من رأسي. وإلاّ لَمَا بَقيت هنا لفترة طويلة بعد أن أُحْرق كوخي. أنا أتفهم مشاعركم. من فضلكم، حاولوا أن تفهموا مشاعري أنا أيضا.قال عبد العزيز:- في هذه الحالة، كل ما يُمكننا فعلُه من أجلك هو أن نذهب إلى والد حبيبتك لِنرى رَدَّهُ.قال مُحَمّادْ مبتسماً:- اذهبوا إلى والدي أوّلاً. ولا تذهبوا جميعاً! يكفي رجل واحد أو اثنان. إذا سَمح لكم والدي، عندها يمكنكم أن تذهبوا إلى والد المرأة. وشكراً مُقدّماً.قال عبد العزيز وهو ينهض ليذهب:- هذا أقلُّ ما يمكننا فعله من أجلك يا معلم!بدأ مطرٌ خفيف يَهطل عندما أطفأ حسن المصباح وتمنى لمُحَمّادْ ليلة سعيدة.في الصباح، كان مُحَمّادْ جالساً بمفرده في المسجد القصبي ويقرأ القرآن بصوت خافت. استمر في القراءة حتى امتلأت عيناه بالدموع. ثم أعاد المصحف إلى مكانه بإحدى زوايا الكوخ وخرج. كانت قد تكونت بِرَك مائية هنا وهناك بين الأكواخ. وقف مُحَمّادْ ينظر إلى تلك البِرك، وتساءل عما سيحدث إذا ما جلبت الأيام التالية المزيد من المطر أو إذا جلب الوادي المزيد من المياه من بلاد بعيدة. ماذا سيحدث له ولطلابه إذا حدث فيضان؟ بقي يفكر وهو يتنقل بين الأكواخ. ثم تحول تفكيره إلى يطّو. كان والده قد أخبر حسن وإسماعيل أنه سيكون في انتظارهما وقت القيلولة. سيكون جميع الطلاب الثلاثة والعشرين هناك، في منزل والده، وسيتحدثون عن يطّو. الآن الطلاب ما يزالون في السوق؛ وهو إنما تخلّف عنهم لكي يحرس الأكواخ أثناء غيابهم.وهاهُم قد عادوا من السوق، إلا أن عدَدهم هذه المرة لم يَكن كان، ثلاثة وعشرين، بل أربعين! وكانوا يهتفون: "الله خلقني، الله رزقني، الله علمني، الله هداني..." أُصيب مُحَمّادْ بالذهول. ارتجفت يداه وهو يُعانق الوافدين الجدد. وفجأة، واجه حسن جميعَ الطلاب وقال: لدينا موعد مهم اليوم. (رفع صوته فوق صهيل الخيول وهدير الرعد.) نحن نقترب من ساعة القيلولة. فَلْيَبْقَ رجلان منكم لحراسة بيوتاتنا ودوابنا. وسيذهب بَقِيّتُنا لمقابلة هذا الرجل، أعني والدَ معلمنا. فلتستعدوا، رحمكم الله.وكم كانت سعادةُ مُحَمّادْ وهو ينظر إلى حسن بعد خُطبَته. كانت عيناه تلمعان سرورا وهو يقول: أنا فخور بك يا حسن! فردَّ عليه حسن بابتسامة وركض نحو الطلبة ليُساعدهم على إزالة الفوضى التي أحدثتها البغال والحمير والخيول التي أحضرها الوافدون الجدد معهم.ثم انطلق موكبُ الطلاب نحو منزل أسرة مُحَمّادْ، بينما كانت قطرات المطر الغزيرة تتساقط بثبات والرعدُ يُهدد بأمطار أكثر غزارة.كان الموكب هادئًا: لا حديث ولا أناشيد.ثم امتلأت غرفة الضيوف في منزل أسرة مُحَمّادْ بالطلاب، وكثير منهم لم يكن لديهم أي فكرة عن سبب وجودهم هناك.- ألست أنتَ الذي أتيتَ إليَّ في وقت سابق من اليوم؟قال حسن بأدب واحترام:- نعم، سيدي، أنا هو!وأنصتَ الجميعُ باهتمامٍ وبمُنتهى الأدب لَمّا بدأ والدُ مُحَمّادْ الكلام:- جئتُم إليّ وقلتم إن ابني مُحَمّادْ يرغب في الزواج من إحدى فتيات القرية. لم تعرفوا عَمّن كنتم تتحدثون. في هذه القرية شابّات وفتيات كثيرات. وأنا سأكون سعيدًا بِتمكين ابني من الزواج من أي امرأة من نساء وفتيات هذه القرية. ولكن هناك امرأة واحدة - نعم، واحدة لا سواها - لا يُمكنُ لابْني ولا لَِأيِّ رجل مثله أن يحلم بها. وهي التي قلتم إن ابني مُحَمّادْ يرغب في الزواج منها.كان حسن قد فتح فمه للتَّو ليقول شيئًا لَما قام والدُ مُحَمّادْ وغادر الغرفة لِبِضعِ ثوانٍ. وجَّه جميعُ الطلاب أعينهم إلى مُحَمّادْ، فما كان منه إلا أن خفَض بَصره. ثم فجأةً، تحولت جميع الأنظار نحو الباب، الذي دخلت منه امرأة شابة لها عينان وحاجبان سود. فَغَر بعضُ الطلاب أفواهَهم، وزاغت الأنظار وتجمدت الشفاه، ولما نطقت قالت: سبحان الله! ماشاء الله! ولم تتحرك جميع الشفاه . فقد غرق معظم من في الغرفة في ذهول وشرود. أما والدُ مُحَمّادْ فقد وقف بجانب يطّو في وسط الغرفة، وقال: هذه هي المرأة التي يريد ابني الزواج منها! ثم أشار إليها بأن تدور في مكانها حتى يراها كل الطلبة. ومُحَمّادْ أيضا رفع طَرفه إليها، فالتَقت أعينُهما، وبقيَ هو ينظرُ إليها وهي تدور في مكانها حتى يراها من لم يَرها بعدُ، بينما لم يتوقف والدُ مُحَمّادْ عن الكلام: هذه هي المرأة التي لن يستطيع ابني الزواج منها أبدًا. ليس أنني لا أريده أن يتزوجها. لكن والدَها هو الذي لن يَقبل أبدًا أن يُعطيها لابني. والدُها حُر. إنها ابنتُه وهو حر في تزويجها لرجل من اختياره. لا ينبغي لأحد أن يَلومه على ذلك. كون ابني يحبها لا يعني أنه يستحقها. الحب شيء، والزواج شيء آخر. الآن، بإمكانكِ أن تنصَرفي أيْ بُنَيَّتي.خرجت يطّو من الغرفة وعاد والد مُحَمّادْ ليجلس في مكانه، في الجانب المقابل لِحسن. فقال وهو ينظر إلى حسن، الذي بَدا وكأنه لم يَعُدْ يفهم شيئا:- ماذا تقول الآن يا رجل؟لقد مَرَّ بعض الوقت قبل أن يتمكن حسن من التحدث بصوت خافت:- نحن لا نلومُك، سيدي. كل ما نريدُه هو أن تأذنَ لنا بالذهاب إلى والد المرأة.قال والد مُحَمّادْ بوجه مُتجهِّم:- لقد حذَّرتُ هذا الرجلَ وصاحبَيه أولاً. اليوم أُحذِّركم جميعًا. لن تَروا إلا البؤس والشقاء إذا ما أقدَمتُم على زيارة والد الفتاة. أنا لن أذهب معكم. أن لن أَأْذَن لكم. سأكون تعيساً إذا ما ذهبتم إلى والدها. ستجعلون مني أُضحوكة في أعيُن أهل القرية حينما يعلمون أن ابني مُغَرمٌ بيطّو. ولكن ماذا عساي أفعل؟ ابني يريدني أن أصبح أحمق القرية لبقية حياتي! اذهبوا إن شئتم! لن أمنعكم! وانفجر بالبُكاء. ومُحَمّادْ نفسه ذرفت عيناه وهو يقوم من مكانه وأشار للطلاب بالمغادرة.
محمد علي لكوادر المحمدية، المملكة المغربية
dimanche 29 septembre 2024
الفصل الرابع
.
Inscription à :
Publier les commentaires (Atom)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire