النسخة الإنجليزية
YETTO
الفصل الثالث
كان الجوُّ يزدادُ حراًّ مع مرور ساعات الصباح؛ ولَم يَمنعْ ذلك مُحَمَّادْ وحسن من متابعة سيرِهما ومُحادثَتهما إلى أن وصلا إلى الموضع الذي ترك فيه حسن بغلَه يوم السبت. كان البغلُ مربوطاً إلى شجيرة. وبينما انحنى حسن لفكِّ لِرِباط البغل، قال، وهو يُشير بيده إلى الحصى الجافة على يمينه:
- ألا أُخبِرك؟ كنتُ قادِماً عبر هذا المكان قبل ثلاث سنوات فَوجدت الوادي منتفخًا بسبب المطر، واضطُرِرت إلى الانتظار لمدة شهر كامل على الضفة الأخرى قبل أن أتَمكن من العُبور إلى هذا الجانب ومواصلة طريقي إلى بلدتي.
قال مُحَمَّادْ وهو ينظر حوالَيه:
- نعم، هذا يَحدث أحيانًا.
قال حسن وهو ينهض على قدميه:
- إنَن، فسيكون عليك أن تنتقلَ إلى مكان آخر عَمّا قريب!
- رُبما. على أي حال، فنحن ما زِلنا في بداية الخريف. ما زالت الشمس حارقة، كما ترى. و بَعد الظهر سيكون الجو أكثر حراًّ، وبالمناسبة، عليك أن تتحلى بالصبر مع الصبي.
- سأحاول! الآن، لِنَتحرك!
عادا معاً إلى الكوخ، وفيه بَقيا يتحدثان عن كل شيء ولا شيء، إلى أن سمِعا الأذان. بعدها أخذ مُحَمَّادْ بغلته وأشار لِحَسن بالسَّير بجانبه إلى المسجد.
استقبلَهما الإمام على الجانب الشمالي من المسجد. فقال مُحَمَّادْ: هل يُمكِنك أن تُسديَ لي معروفًا يا شيخ؟
- سأفعل إن أنت أعطيتَني دجاجة أخرى! حَقّاً، ما ألذَّ الدجاجة التي أعطيتني!
ابتسم مُحَمَّادْ وقال :
- أَعِدك بذلك يا شيخ، ولكن ليس الآن.
قال الإمام: كنتُ أمزح فقط. قُل لي، ما مشكلتك؟
- حسنًا، أنت تعرف كوخي. لا يُمكنني أن أستضيفَ فيه أحداً. فهل تتفضل باستضافة حسن هذه الليلة؟
قال الإمام: ذاك ما يُسعدني!
نظر حسن إلى الإمام وقال:
- أشكركَ يا شيخ! ولكنّي إمّا أن أُقَضي الليل في كوخك يا مُحَمَّادْ و إمّا أن أرحل!
- حسنًا! ولكن أنت تعلم متى أعود من توشكي!
قال الإمام:
- لا تَهتَم! حسن سيتَعشّى معي وبعد ذلك سَينتظرك في كوخك. الآن، هيّا بنا إلى الصلاة!
بعد الصلاة رافقَ مُحَمَّادْ حسن إلى المرعى حيث كان عيسى ينتظر في ظِل شجرة. هناك بَقي حسن مع الصبي بينما ركب مُحَمَّادْ بغلته وواصل طريقه. توقف عند باب دامي، التي خرجت وقالت إنها لا تُمانع في بقاء حسن مع ابنها في تلك الظهيرة. ثم أعطت مُحَمَّادْ عنقود عنب وتمنت له يومًا سعيدًا.
شكَرَها مُحَمَّادْ وتحرّك ببغلته. رفع بصرَه إلى السماء فحَمِد الله وهو يَضع أولَ حبة عِنب في فمه. وما هي إلّا ثَوان حتى خَفق قلبه بشدة عند رُؤية والد يطّو واقفًا في مدخل منزله. وبينما مَرَّ مُحَمَّادْ أمام الباب، ألقى عليه والد يطّو السلام. واحْمرَّ وجهُ مُحَمَّادْ لَمّا وقَف والد يطّو أمامه، وقال بنبرة جادة:
- مالي أراك تمُرّ دائما من هذا الطريق يا مُحَمَّادْ؟
فرَد عليه مُحَمَّادْ بصوت مُرتجف:
- أمُر من هنا لأن لي غرضاً في توشكي. وأحيانًا آتي إلى منزل دامي؛ وكما تعلم، فهذا هو أقصر طريق إلى توشكي.
قال والد يطّو بابتسامة ماكرة:
حسنًا! كنتُ أخشى أنك إنّما تمر من هنا لِحاجة في نفسك. سأرى ما سيحدث! نهارك مبارك!
ربّت مُحَمَّادْ على كتِف البغل ورمى بما تبقى من العنقود في قِبِّ جلبابه، ووضع يده على قلبه.
رُبما لاحظ عليه رجلُ توشكي شيئا ما، فقال له وهو يَنزل عن بغلته:
- ما بِك يا هذا؟ ما الذي جعل وجهك مُتغيراً هكذا؟ هل أنت مريض؟
قال مُحَمَّادْ وآثار الصدمة بادية عليه:
- أجل، بعض الشيء.
وأثناء الدّرس، بَقي مُحَمَّادْ يَتردد ويتعثر ويتنهد ويُحاول استرجاع أنفاسه. وثم خرج بمجرد انتهاء الدرس.
و قال له صاحِبه:
- كنتَ دائمًا تبقى إلى أن تتعشى معي. فماذا جرى لك اليوم؟
أجاب مُحَمَّادْ وهو يركب البغلة:
- أنا مُمتنٌّ لك. لكنّي الليلةَ سأتناولُ العشاء في بيتي.
لكن كان هناك نور في كوخه. نظر مُحَمَّادْ إلى الداخل فرأى حسن مستلقياً على وجهه، مستغرقاً في نومه. وكان هناك قنديل صغيرٌ موضوعاً بالقرب من قدميه. استدار مُحَمَّادْ إلى الجهة الأخرى وخفض بصره، وهو يُفكر. ثم جلس بجوار الباب. وما هي إلا لحظات حتى استولت عليه غَفوة. غَفوة صحا بعدها، ولمّا فتح عينيه وقع نظره على مكان شديد الظلمة بين القصب. فبقي يُحدِّق في الفراغ شاردَ الذهن. ثُم سمع صوتاً خفيفاً. إنه حسن. قام واقترب من الباب. نظر مُحَمَّادْ إلى أسفل وقال بصوت ما يزال يغلب عليه النعاس:
- هل تعشيتَ مع الإمام؟
قال حسن، وهو يتقدم خطوة إلى الأمام ليجلس بجانب مُحَمَّادْ:
- أجل.
تنهد مُحَمَّادْ وأمسك برأسه بين يديه ثم تنهد مرة أخرى. فنظر إليه حسن وقال:
- ما بك يا أخي؟
تنهد مُحَمَّادْ مرة أخرى، وقال:
- لقد دعاني صاحبي في توشكي لتناول العشاء عنده؛ فقلت إني سأتعشى في بيتي.
- هل أنت حزين لأنك لم تتناول العشاء أم لأنك كذبتَ على صاحبك في توشكي؟
- لقد تعشيتُ على عنب في طريق عودتي.
- إذن أنت حزين لأجل الكِذبة.
- تمامًا! لقد أصبحتُ كذّابًا!
- أنت كذبتَ على الرجل لأنك لم تستطع البقاء في توشكي، أليس كذلك؟
- هذا صحيح.
- لم تستطع البقاء هناك وقتاً أطول لأنك أردت العودة إلى هنا في أقرب وقت ممكن.
- كَلا. لقد أتيت باكرًا لأنني لم أستطع ن آكل شيئا. حتى عنقود العنب لم أستطع أن آكله كلَّه.
ضحك حسن وقال:
- أنا آسف، أنا أضحك رغماً عني، ولكن ما الذي حدث؟
- سأُخبرك: لقد حذَّرني والد الفتاة وحَرَّم علَيّ المرور من أي طريق قريب من منزلهم.
- الآن، فهمت! أنت حزين لأجل الحب، إذَن.
- نعم، أنا حزين، لكنني سعيد.
- ماذا! حزينٌ وسعيد؟ اشرح لي! لا أفهم!
- أنا حزين لأنني لم أَبلغ مُرادي. وأنا سعيد لأنني أستطيع أن أَتحمّلَ حُزني.
- معذرة، ولكنك تتحدث مثل فيلسوف. فهلّا وضَّحت لي ما تريد قولَه؟
الآن، مُحَمَّادْ نفسه ضحك، ثم قال:- ولكنك لم تُجب عن سؤالي.: كيف يمكنك أن تكون حزينًا وسعيدًا في نفس الوقت؟
- حسنًا، الأمرُ بسيط للغاية. أنا حزينٌ لأنني لا أستطيع الزواج من المرأة التي أحبها. ولكن على الرغم من حزني، يُمكنني أن أضحك، وأن أمشي، وأن أتكلم وأن أُفكر. وعندما أُفكر، أشعر بالخجل من نفسي، لأنني سَأُدرِك حينها أنني إنما أتَعلق بامرأة لم تُعطني شيئا. بالي مشغولٌ بالفتاة ليلًا ونهارًا، وهي لم تُعطني شيئا. فماذا أقول عن الله، الذي أعطاني الحياة، أعطاني البصر، أعطاني القدرة على الكلام، والذي منحني كل الوسائل للتعلم والتفكير، إلخ؟ الحقيقة هي أنني الآن أَذكُر الفتاةَ أكثر مِمّا أَذكُر الله! أليس هذا سببًا كافيًا لأشعرَ بالخجل من نفسي؟ وعندما ينتابني هذا الشعور وأُحاول جهد الإمكان أن أَصرِفَ تفكيري إلى خالقي - الله، سبحانه وتعالى، أجد نفسي عاجزاً عن ذلك. أجد قلبي مُوَزعا بين الفتاة وبين رَبّي. ولا أجد لذلك حيلة. كم كان بِوُدّي أن أُخرِجَ هذه الفتاة من تفكيري و أنساها بالَرة فلا أفكر إلا في رَبّي وخالقي ورازقي، لكنني لا أستطيع. كلَّ يوم أُصبِح أكثر وعياً بتناقضاتي. كل يوم أتعلم المزيد والمزيد عن نفسي. أصبحت أكثر وعياً بالعالم من حولي. الآن، لا أرى العالم أو أسمعه فحسب، بل أشعر به أيضاً. صِرتُ أُحِس بوجوده. الآن، أكثرَ من أي وقت مضى، صِرت أشعرُ بالجمال. الآن، أكثر من أي وقت مضى، صِرت أتوقإلى رؤية القمر الساطع في جوف السماء المرصعة بالنجوم؛ صرت أعشق رؤية الطيور وسماع زقزقتها وهي تمُر فوق رأسي؛ صرت أعشق منظرَ الماء وهو يتدفق في وسط الوادي، ومنظرَ الأشجار الخضراء المُتمايلة بلُطفٍ عندما تداعبها الريح على جنَبات الوادي؛ صرت أعشق منظرَ الأشجار في أوج بهائِها؛ إني لأعشق الآن أن أنظرَ إلى الأطفال وهم يلعبون ويمرحون حواليل مَساكنهم؛ إني لَأعشقُ الآن أن أرى الطيور والعصافير وهي تُرفرف في السماء عائدةً إلى أعشاشها.
ومرة أخرى، يَتجلّى لي أن هذه الأشياء كلها إنما هي مِمّا دعانا الله إلى التفكر فيها وتأمُّلها. ألم تقرأ القرآن؟ ألا ترى أن الله يذكر في القرآن الكريم الأرض وما عليها والسماوات وما بينها، والأنهار والبحار، والنخيل والأعناب والتين والزيتون والطيور والأنعام، وكل شيء مما نعلم وما لا نعلم؟ . ألا ترى أن الله يريد منا فعلاً أن نصرف تفكيرنا إلى هذه الآيات؟ إنه يريد منا من خلال تَفَكُّرِنا أن نَذكُره هو، سبحانه وتعالى. وَأَنا أُفَكِّرُ في هذه الأشياء أجدني أفكر في خالقي من جديد، وَلو لفترة قصيرة. الآن، أنا أفكر في الله بطريقة مختلفة - أو قُل بطريقة أفضل. ومع ذلك، أشعر بالخجل من نفسي. أعلم أن تفكيري يجب أن ينصرف إلى رَبي أولاً وقبل كل شيء. ولكن ماذا عسايَ أن أفعل؟ فقلبي مُوَزع بين رَبي وحُبي.
أحس مُحَمَّادْ برعشة في صوت حسن. فقال مبتسمًا:
- يبدو أنك لم تفهم قولي. دعني أُبَسّط لك طرح الأمر أكثر. ما هي مشكلتي؟ مشكلتي هي أنني لا أستطيع أن أتزوج حبيبة قلبي، أليس كذلك؟ أسأل نفسي: لماذا؟ حسنًا، عندما أُفكر في الأمر مرارًا وتكرارًا، أقول لنفسي: لا يمكنك الزواج منها لأنك لا تستحقها! لكن بعد ذلك أسأل نفسي: هل هي تستحقني؟ (ضحِك مُحَمَّادْ وهو يُواصل حديثه.) أعرف لماذا لا أستحِقها؛ السبب هو أني أُفكر فيها أكثر من تفكيري في خالقي. وهذا ما لا ينبغي لي أن أفعله إن كنت فعلاً مؤمنا. فالله هو الذي أعطاني كل شيء. لم تُعطني الفتاة التي أحبها أي شيء على الإطلاق. شعوري هذا يدفعني إلى أن أقول: الله خلقني، الله رزقني، الله علّمني، الله هداني. وكُلّما رَدَّدتُ هذه الكلمات توقفت آهاتي، وخَفَّت دقّات قلبي، وارتاح جسمي كله. فأُحسب عندها بالسعادة. أتحوّلُ من الحزن إلى السعادة. فهل الأمر واضح الآن؟
كان حسن يُنصت باهتمام بالغ، غارقاً في صمت يوحي بالإنبهار، وفجأة ضحك وقال:
- إن قصتك لَعجيبة حقاً!
وكأن مُحَمَّادْ لم يكن يبتظر سوى سماع تلك الكلمات، زاد حماسه وأطلق العنان للِسانه: واسمح لي أن أضيف شيئاً واحداً. أنا لست في عجلة من أمر الزواج. سأُعاني كثيراً إذا جاء شخص آخر بين عشية وضحاها وخطف حبيبة قلبي مني. وما دامت هي عزباء، فسأفعل كل ما بوسعي للوصول إليها. ولكن لن يكون ذلك بأي ثمن، فلن أخسر روحي من أجلها. سمعت الناس يقولون إن العشاق يرتكبون أحيانًا حماقات وبعضهم يُصاب بالجنون. وهذا ما يُخيفني. أخشى أن أرتكب حماقة. ولكن هناك شيء لا أنساه أبدا. أريد أن أعيش لنفسي كما أريد أن أعيش للآخرين. اللؤم هو أسوأ سِمة في الإنسان، والأنانية هي أسوأ أشكال اللؤم. البخلاء لا يحبون يعانوا من أجل الآخرين. أنا على استعداد للمعاناة من أجل الآخرين تمامًا كما أنا على استعداد للمعاناة من أجل نفسي. لذلك سأحرص على أن لا تَصدُر مني حماقة من الحماقات!
وصاح حسن قائلا:
- لم تترك لي شيئا أقوله! كنت أظن أني أصبحت عالماً أو فقيها. اعتقدتُ أنني تعلمت ما يكفي للبدء في تعليم الآخرين. لكن الآن وَبعد أن التقيتُ بك، أعتقد أنه يَتعين علَيّ العودة إلى الشمال لتَعَلُّم المزيد!
ابتسم مُحَمَّادْ وقال مازحاً:
- وماذا عن الزواج؟
- سأنتظر مِثلَما انتظرت أنت!
في الصباح، كان حسن يستعد لركوب بغله والرحيل عندما قال:
- قُل لي يا مُحَمَّادْ، قَبل أن أذهب، لقد سمعت أن أحدهم أطلق عليك لقبَ الفيلسوف. فما قصة ذلك؟
ضحك مُحَمَّادْ من أعماق قلبه وقال:
- كان ذلك قبل مدة طويلة! كنت في الرابعة عشرة من عمري. وكان رجل سِتّيني يذهب من قرية إلى قرية ليُفتيَ الناس ويُخبرهم بما في القرآن والحديث. كان يُصدِر نوعًا من الفتاوى. وفي يوم من الأيام، وقفتُ بين الحشد الذي كان يسأله. وفجأة لَوّحت له وقلت إن لديَّ سؤالاً. فقال:
- ما سُؤالك؟
قلت:
- ماذا تفعل بالمال الذي تجمعه من قريتنا؟
قال: حسنًا، أضيفه إلى المال الذي أجمعه من القرى الأخرى.
فقلت: وماذا تفعل بالمال الذي تجمعه من جميع القرى؟
قال: أشتري به الأشياء التي أحتاجها للعيش.
قلت: ولماذا تعيش؟
فقال: هذا يكفي! قال. أنت فيلسوف. قبَّح الله الفلاسفة!
فقال الجميع: آمين!
وهذه كل الحكاية.
انفَجر حسن ضاحكاً وهو يركب بغله. بقي مُحَمَّادْ ينظر إليه وهو يقطع الوادي، ثم يصعد إلى الضفة الأخرى. وسرعان ما اختفى حسن. عندها تنهد مُحَمَّادْ. وبقي هناك واقفا يتساءل في قرارة نفسه ما عساه يفعل. هل يذهب إلى عيسى ويُخاطر بـ"فضيحة"، الآن بعد أن حذَّره والد يطّو؟ أم يذهب إلى كوخه وينام؟
أخيراً، ذهب إلى كوخه و استلقى على جانبه. أغمض عينيه وحاول النوم. لكنه ما لَبث أن فتح عينيه. فيطّو كانت أكبر من أن تقوى عيناه احتواؤها. كانت يطّو تملأ عينيه كما يملأ الماءُ القُلة. لذلك فتح عينيه. لكن يطّو لم تكن فقط داخل عينيه. كانت أمام عينيه، أينما التفت. فقد كانت تَغمر بوجودها الكوخ كُله. كان الكوخ أضْيَق من أن يستوعبها. لم يَعد بإمكانه البقاء هناك لفترة أطول. نَهض ولبس نعليه ثم توجه نحو المرعى.
كان عيسى هناك ينتظر بصبر. جلس مُحَمَّادْ بجانبه ومازَحه قبل أن يبدأ درسًا جديدًا. كان يتحدث وعيسى يستمع إلى أن وقف شخص عند ظهريهما. رفع مُحَمَّادْ رأسه ورأى عينين مليئتين بالحقد. لم يكن الشخص سوى والد يطّو. قال:
- ماذا تفعل هنا؟
أجاب مُحَمَّادْ بصوت فيه انكسار:
- أنا هنا أُعَلم الولد.
فضحك والد يطّو ضحكة الساخر المتشفي، وقال:
- أنت تُعَلمه؟ هل هذه مدرسة؟
التفَت مُحَمّادْ إلى عيسى وقال بصوت خافت:
عيسى، أرجوك، قُل لأمك إنني لن أستطيعَ أن ألتقي بك هنا بعد اليوم.
اكتفى عيسى بالنظر في صمت بينما قام مُحَمّادْ قِيام رَجل مُرهق وعاد إلى كوخه.
.
عند ساعة القيلولة، ركب مُحَمّادْ بغلته وانطلق إلى توشكي، مُتَّخِذاً أبعدَ طريق ممكن من منزل يطّو.
تناول العشاءَ مع رجلِ توشكي، وانضم إليه في الصلاة، ثم أخذ بغلته وركب عائداً إلى أزلو. هذه المرةَ ابتسم طِوال الطريق. ابتسم لأن القمرَ كان مُكتملاً في تلك الليلة، وكان مُعَلَّقاً بلا حِراك في السماء على عُلُوٍّ مُنخفض فوق منزل يطّو مباشرة. بَدا وكأنه قعدَ هناك كَحارس أمين خشيةَ أن يأتي أحدٌ فيخطفَ يطّو من مُحَمّادْ.
لكن مُحَمّادْ تنهد. فهو يعَلم أنه إنما كان يَحلم.
تابع طريقه إذَن. مَر بجِوار الكرم، واتخذ طريقًا يمكنه من خلاله رؤية منزل يطّو. نظر إلى المنزل؛ ورفع بصره إلى القمر، وابتسم مرة أخرى، وواصَل طريقه. وبينما هو في منتصف الطريق بين المسجد والمقبرة، إذا الإبتسامة تختفي من وجهه، إذ رأى ناراً تصعد من المكان الذي يقف فيه كوخه. الكوخ الذي كان قائمًا هناك هو الآن يتحطم في ألسِنة اللهب. لَعن مُحَمّادْ الشيطان وقفز من بغلته وسارع لإطفاء النيران. خمدت النيران، لكن الكوخ صار كومة من رماد.
أخذ مُحَمّادْ بغلته وابتعد، باحثًا عن بقعة رملية لقضاء الليل.
وعند الفجر، ذهب إلى المسجد. سلَّم على الإمام، الذي رَدَّ عليه السلام ببرود. وما أن قُضِيت الصلاة حتى قام بسرعة البرق وغادر المسجد وهو يقول إن زوجته مريضة.
وبقي مُحَمّادْ ينتقل من مكان إلى آخر على طول حافة القصب، وهو يفكر. فقال في نفسه: لِم لا أعود إلى إغميزن وأتزوج ابنة صديقي؟ اذهب، إن استطعت! كلمات بها تتحاه عينا يطّو. تقولان له ما الذي يمنعك؟ لكن هيهات! إنه لا يستطع أن يذهاب إلى أي مكان آخر. لقد أصبح الآن لصيقًا بهذه الأرض. بدا الأمر وكأن أحداً سحره بسحرٍ لا ينفع معه شيء.
وعند الظُّهر، عاد مُحَمّادْ إلى حيث كان كوخه ذات يوم. وقف هناك وتنهد وتأوه مرتين: مَرةً لأنه خطر بباله أنه رُبما والد يطّو هو الذي فعلها؛ وثانيًا لأنه رأى سرج بغلته مُلقًى بجانب الأنقاض. وهذا يعني أن أسرته أيضًا لم تعد ترغب في رؤيته.
صلّى الظُّهر، ثم وضع السرج على البغلة وانطلق إلى توشكي، مُتخذًا طريقًا لا يُرى منه رؤية منزل يطّو.
بعد ثلاثة أيام، وَدَّع زبونَه في توشكي وأخذ مالَه والدجاجة وركب عائدًا إلى أزلو. وفي الطريق ألقى نظرة من بعيد على منزل يطّو ومَرَّ بكومة الأنقاض، حيث توقف قليلاً، ثم ركب بعيدًا صوبَ مكان آمِن للنوم.
وعند الفجر، ذهب إلى المسجد مرة أخرى. وجد الإمام جالساً أمام الباب. سلم عليه ومدَّ إليه الدجاجة. لكن الإمام لم يأخذها. قام ليدخل إلى المسجد وهو يُتَمتم: لا، لا أريدها! وضع مُحَمّادْ الدجاجة عند الباب وسارع للانضمام إلى الإمام في الصلاة. غادر الإمام بمجرد أن أدى صلاته. خرج وترك مُحَمّادْ وحده، فصاح: حسنًا! أنتم جميعًا تقفون ضِدي. وأنا سأجعل الله يقف ضِدكم! لن أرحل من هنا لِأُطَيِّبَ خواطِركم! وبدأ يدعو ويتضرع إلى أن فاضت عيناه وابْتَلت لحيتُه بالدموع.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire