النسخة الإنجليزية
YETTO
الفصل الثاني
أطرق مُحَمَّادْ رأسه وتَنهد، ثم نهض وانطلقَ إلى حيث كانت بغلتُه لا تزال مربوطةً بالشجرة. فكَّ رِباطها وركبها بخجل واتجه نحو الوادي. فناداه أبوه بصوت عالٍ: إلى أين أنت ذاهب؟
لكن مُحَمَّادْ لم يُجب، و واصل سيرَه محاولًا جاهدًا حبْس دموعِه. مَرَّ بالمسجد وأَومَأ برأسه للإمام الذي كان جالسًا بِمفرده عند الباب. ولم يتوقف حتى وصل إلى القصب، ثم تَرجَّل وترك بغلتَه ترعى في العشب الأصفر القليل الذي نبَت على طول حافة القصب. سار مسافة قصيرة تاركا القصب إلى يَساره. كان يُفَكر و هو يَمشي. ثم توقف فجأة واستدار نحو البغلة. للحظة، استقر نظرُه على المسجد، ثم نظر إلى أسفل ومشى ببطء عائداً نحو البغلة. وهناك جلس وظهرُه إلى القصب وجال بِبَصرِه على المناظر الطبيعية المُتمَوّجة أمامَه. و قال في نفسه: لن أجدَ مكانًا أفضلَ من هذا في الوقت الحالي. يَجب أن أبنِيَ لي بيتًا صغيرًا هنا. ولكن تحديدًا؟ وقف وبدأ يمشي ذهابًا وإيابًا، مُتجاوِزًا البغلة في كل مرة. ثم توقف ونظر صوب الجهة التي فيها منزل يَطّو، والذي بِالكاد يستطيع رؤيتَه من هذا المكان. وبَقي واقفا هناك حتى شعر بالتعب. ثم دَنا من البغلة وجرَّها برفق نحو نخلة، وربطها إليها. ثم ابتعد قليلاً عن الشجرة واستلقى على ظهره في بقعة رملية. ولكن ما لَبِث أن قام، إذ إن حرارةَ الشمس أصبحت مؤلمةً للغاية بحيثُ لا يتحمَّلها وجهُه. فأسرع بِحَلِّ بغلتِه وجرها نحو المسجد. عندما اقترب من الجانب الشمالي من المسجد، نهض الإمام وقابلَه. ثم قال:
- تبدو مُتَوترًا بعضَ الشي. ما بِك؟
- أردت فقط الجلوس معك قليلاً.
- مرحبًا بك! اربِط البغلة بتلك الشجرة وتعالَ لتجلس بجانبي.
وجلسا جنبًا إلى جنب وظهراهُما إلى الحائط. ثم بدأ مُحَمَّادْ الكلام :
- الجو حار، أليس كذلك؟
- بلى، إنه كذلك.
- قل لي يا شيخ، عندما عُدتُ لاحظتُ أن العديدَ من الأطفال قد وُلِدوا أثناء غيابي. أتساءل إن كان أحدٌ من القرية قد تُوُفي منذ أن غادرتُ قبل أربعة عشر أو خمسة عشر عامًا؟
تنَهَّد الإمام و قال:
- نعم، حُفنة منهم.
تنهد مُحَمَّادْ بدوره و قال:
- مَن؟
فذكَر له الإمامُ أسماءَ من تُوُفّوا حسب الترتيب الزمني، وحبس مُحَمَّادْ أنفاسه حتى ذكرِ آخرِ اسم. وتنفَّس الصُّعداءَ إذ لم يكن الاسم الذي خشِيَ سماعَه من بين الأسماء التي ذكرها الإمام. فتَردَّد قليلا ثم قال:
- بصراحة، أردتُ أن أسألك عن دامي.
- دامي؟ لماذا؟
- سأُخبِرك. أنا أعلم أنها كانت في مثل سِنِّك الآن عندما غادرتُ. لذا فَلا غَروَ أنها كبُرت اليوم. وأعلم أنها كانت أرملةً بلا أطفال، وكانت امرأة صالحة، وكانت تمتلكُ قطعا أرضيةً وأنعاما أيضًا. كنت سأسأَلُك عنها لأنني، بصراحة، أَوَدُّ أن يكونَ لديَّ منزل صغير خاص بي؛ ولكن كما ترى، أنا أفتقِر إلى المال، وأحتاج إلى بقعة صغيرة لبناء كوخ صغير عليها. كنت هناك عند حافَّة القصب، وفكرتُ في بناء كوخ بِقِطع من ذلك القصب. لكن المشكلة هي أنني بحاجة إلى مكان. لهذا السبب فكرتُ في دامي.
- أستطيعُ الآنَ أن أفهمَ سببَ تفكيرِك في دامي. أنت مُحِق في قولك إنها امرأة صالحة ويمكنها مساعدتك. ولكن لماذا لا تبقى مع عائلتك؟ فمنزل والدك من أكبر منازل قرية!
- أعلم. أعلم. لكنني لا أشعر بالراحة في العيش تحت سقفِهم. أُفَضِّل أن يكون لي كوخٌ خاص بي بالقرب من الوادي. لذا، أرجوك، إن أمكَنَك، أن تأتيَ معي إلى منزل دامي لنَرى إِن كانت تستطيع أن تمنَحني مكانًا أَبني عليه كوخي و لِأُقيم فيه و لَو لِمدة أشهر قليلة؛ وفي المُقابل، سأكون في خدمَتِها. سأُساعِدها بقدر ما أستطيع في أعمال الحرث وما إلى ذلك. فهل يمكنك أن تأتي معي، يا شيخ؟
- بكل فرح و سرور!
وتركا البغلة بِجوار المسجد وسارا ببطء إلى منزل دامي. كانت دامي تسكن بجوار يَطّو. لم يكن يَفصِل بين المنزلين سوى حقل. لكن لم يَظهرْ أيُّ أثرٍ ليَطّو لما وقف مُحَمَّادْ والإمام عند باب دامي.
كان الإمامُ هو من طرَق البابَ. فخرجت دامي، وهي امرأةٌ طويلةُ القامة في أواخرِ الستينيات من عُمرها، و ما أن رَأَتْهما حتي قالت مُرَحِّبةً: أهلًا! تفَضَّلا بالدخول!
أجاب الإمامُ دون أن ينهَض من مكانه:
باركَ الله فيكِ! نحن لن نُزعِجك كثيرًا. لقد جِئناكِ فقط لأن هذا الرجل، مُحَمَّادْ بن احْماد أمگون، له مشكلة ويحتاج إلى مساعدتك.
- حسنًا! لكن ادخُلا!
دَخلت هي ثم تبعها مُحَمَّادْ والإمام عبْر الفناء الصغير إلى غرفة كبيرة ذات سقف من القش. فقالت وهي تجلس على السَّجّادة الزرقاء:
- والآن، ما المشكلةُ؟
قال الإمام:
- المشكلةُ باختصارٍ هي أن مُحَمَّادْ يريد بناءَ كوخ صغير من القصب بالقرب من الوادي، لكنه لا يَملك ثَمنَ قطعةِ أرضٍ لبناء الكوخ عليها.
قالت دامي، وهي تنظر إلى مُحَمَّادْ:
- لماذا تريد كوخًا قرب الوادي؟ أ تريد أن تعيش مع الجِن؟
قال مُحَمَّادْ مُبتسمًا:
- كلا، يا خالة! أنا لستُ أقَلَّ خوفًا من الجن منك. كلُّ ما أُريده هو أن أكون وحدي لبعض الوقت. لقد عُدتُ قبل أيام قليلة فقط، و مع ذلك وجدت صُعوبة في التأقلم مع أهل القرية. أنا بحاجة إلى شيء من العزلة لبعض الوقت.
- حسنًا. لا تقلق، يا بُنَي! سأُعطيك قطعةَ أرض قريبة جدًا من القصب وغير بعيدة عن المسجد. ولكن من سيَبني لك بيتَك؟
- سأُحاول القيام بذلك بنفسي، أو رُبما بمساعدة الإمام.
- حسنًا. هذه فكرةٌ جيدة. إذا ساعَدك الإمام فَلَه عندي أجرة. هل هناك أي مشكلة أخرى؟
- كلا، هذا كل ما في الأمر.
قالها الإمام وقد بَدا عليه السرورُ من عرض دامي. و مُحَمَّادْ أيضا ظهرت عليه علامات البهجة. قال:
- نعم يا خالة! هذه هي المشكلة الوحيدة. ولن أنسى فضلكِ عليَّ أبداً.
ابتسمت دامي له وقالت:
- اذهبا الآن وعودا وقتَ الغداء. أنت والإمام ستتناولان الغداء معنا. أنت تَعلَم أنني لم ألِدْ، و لكن لي طفل بِالتَّبنّي، وهو الآن في المرعى، سيتناول الغداءَ معكما.
شكَرها مُحَمَّادْ والإمام بصوت واحد و خرجا.
عند الظهر، أَذَّن الإمام، ألذي كان أيضاً المُؤذن، للصلاة. لكن لَم يُجبْه أحد. فقال و هو يُلَوح لمُحَمَّادْ للانضمام إليه في الصلاة: إنهم لا يأتون إلا لصلاة المغرب، بعد أن يَنتهوا من جميع أعمالهم.
بعد صلاة الظهر مباشرة، فكَّ مُحَمَّادْ بغلتَه وساقها بينما سار الإمام بجانبه باتجاه منزل دامي. سأل الإمام وهما يَنطلقان:
- أين السرج؟
- لقد تركتُه في منزل أبي.
- ولماذا أتيت بالبغلة؟ نحن ذاهبان فقط عند دامي ؟
- سأذهبُ إلى توشكي حيث يَنتظرني رجل هناك.
دامي أيضًا رأت البغلة وسألته:
- لماذا أحضرت البغلة؟
- أنا بحاجة إليها، لأنني سأذهب إلى توشكي بعد الغداء.
- وماذا ستفعل في توشكي؟
- لقد استأجَرني رجل من توشكي لتعليمه الحسابَ.
- حقًّا؟ هل يُمكنك تعليمُ ابني أيضا؟
- بالتأكيد، أستطيع.
- يَسُرُّني سماعُ ذلك! دَع بغلتَك ترعى هناك وادخل. وأنت أيضًا يا شيخ! تفضلا! مرحبًا بكما!
وبينما بدأ مُحَمَّادْ و الإمام و ابنُ دامي يتناولون غداءَهم، خرجت دامي فجأة من غرفة جانِبية واقتربت منهم وهي تبتسم. جلست بالقرب من مُحَمَّادْ وقالت وهي تَمُدُّ يدَها لتلتقِط زيتونة من الطبق:
- أتيتُ فقط لأرى ماذا ستُعَلم ابني. هلّا علّمْتَه شيئًا الآن لأرى إن كان سيَتعلم؟
- أمرك، يا خالة!
قالها مُحَمَّادْ بلُطف. ثم نظر إلى الصبي وقال له:
- كم عمرك يا عيسى؟
قال عيسى بخجل:
- اثنتا عشرة سنة.
- مَن قال لك ذلك؟
- أَخبَرتني أُمي.
- متى وُلِدت؟
- لا أعرف.
قالت دامي وهي تنظر بِرفق إلى الصبي:
- قُل: وُلِدت قبلَ اثني عشر عامًا.
فرَدَّد عيسى بعد أمِّه:
- وُلدت قبل اثني عشر عامًا.
- والآن، قُل لي يا عيسى، افترِضْ أن لديك بقرة تلِد عجلًا جديدًا كلَّ عامين، فَكَم عِجلًا ستلد لك في ظرف اثني عشر عامًا؟
توقَّف عيسى عن الأكل وبدأ يَعُدُّ في نفسه، مُستخدِمًا أصابعَه. ثم قال أخيرًا:
- خمسة. لا - ستة!
- أحسنت ! أحسنت!
ظهرت علامات البهجة على وجه خمسة. لا ء ستة، ودامي أيضا ابتسمت مُبتَهجةً، ثم قالت:
- أعتقد أنه يستطيع التعلم. سأعطيه درهمًا واحدًا في اليوم طالَما أنه يتعلم جيدًا. لكن أخبِرني، يا مُحَمَّادْ، قلتَ إنك لديك ذلك الرجل في توشكي لتعليمه، متى ستُعلِّم ابني إذن؟
- أنا حُرٌّ طِوال الصباح، يا خالة؛ سألتقي بعيسى كل صباح عندما يخرج مع القطيع إلى المرعى. أو ربما يمكننا أن نلتقي في المسجد؟
- أعتقد أنه من الأفضل أن تلتقيَ به في المرعى. أرجوك أن تعمل ما في وُسعك كي يَتعلم جيدًا.
- لا تقلقي يا خالة! سأبذُل قُصارى جهدي.
بعد الغداء، أخذ مُحَمَّادْ بغلته وانطلق إلى توشكي. في هذه المرة سَلَك الطريق الذي لا يَبعُد سوى بضعة أمتار عن منزل يَطّو. ألقى نظرة خاطفة من خلال النافذة الأولى، ثم الثانية، لكن لم يكن هناك شيء مَمّا رَجا رؤيتَه. لا يَطّو ولا أي شخص من عائلتها. كل ما استطاع رؤيتَه هو مسكنها الأبيض، بأشجاره الباسقة ودجاجه و طيوره وكلبه النائم في صمت.
تابعَ طريقه تحت شمس حارقة. وبينما كان يقترب من توشكي، بدأت ريح خفيفة تَهُب من الغرب، ومن هناك أيضًا، بدأت غيومٌ خفيفةٌ تسبَح في السماء.
كان مُحَمَّادْ سعيدًا بتناول العشاء مع زَبونه في توشكي، إلا أنه اعتذر بأدب لَمّا دعاه الرجل للمبيت عنده . لِذا، أخذ بغلته وركب عائدًا إلى أزلو. كان يعلم أنه ليس لديه منزل يبيت فيه في أزلو. لكنه لم يستطع قضاء الليل في أي مكان آخر غير أزلو.
ومرة أخرى، مَرَّ من طريق يُمَكِّنُه من رؤية منزل يَطّو؛ رٱه مُظلمًا، والهلال المُضيء في السماء حَرِيٌّ بأن يُخَفِّف عنه ما يُحِس به. وبغلته أيضا كانت تُؤنسه، ولم يَنزل عنها إلى أن وصل إلى حافة القصب. وهناك ربطها إلى نخلة وبحث عن مكان للنوم.
وعند الفجر، كان مُحَمَّادْ في المسجد. الإمامُ أيضًا كان هناك. ولم يَنضم إليهما أحد في صلاة الفجر. لم يكن أحد قد استيقظ بَعدُ عندما سار مُحَمَّادْ والإمام إلى حافة القصب. الإمام هو الذي حَمَل في سَلة من القصب السكاكين والمناشير وعُلبة من جِلد فيها حليب. وبينما هما يَمُران أمام قطعة الأرض التي وهَبَتها دامي لمُحَمَّادْ، والتي تقع بين القصب ومقبرة القرية، قال الإمام :
- لا أظن أن هذا المكان يُناسبك.
فأجاب مُحَمَّادْ:
- أتفق معك.
هاهي الشمس تَطلع شيئا فشيئا و يَظهر عيسى، من خلال القصب المُتمايِل، حاملًا سًلة صغيرة من القصب في يده. لما رٱه مُحَمَّادْ ألقى القصبَ الذي كان يَقطعه وتقدم ببطء نحوه، فحَيّاه الصبي وناوله السلة، قائلاً:
- أرسلت لك أمي هذا العنب للفطور، وهي تدعوك أنت والإمام لتناول الغداء عندنا ليوم.
- شكرًا! ولكن أين تركتَ القطيع؟
- أمي ترعاها؛ سأعود الآن.
- حسنًا! شكرًا جزيلاً. أخبِر أمكَ أننا قادمان لتناول الغداء، إن شاء الله.
لَما أتى وقتُ الغداء، أَدّى مُحَمَّادْ والإمام صلاة الظهر في المسجد ثم ذهبا إلى منزل دامي. بعد الغداء، عاد الإمام إلى الوادي لمواصلة العمل في القصب، بينما انطلق مُحَمَّادْ إلى توشكي، سالِكاً طريقا يُمَكِّنُه من إلقاء نظرة خاطفة على منزل يَطّو. ومرة أخرى، عندما اقترب من توشكي، هَبّت ريح خفيفة من الغرب، وبدأت غيوم خفيفة بالظهور في السماء.
في اليوم التالي، لم تنتظر الريح الخفيفة والغيوم حتى العصر. فقد استمرت طوال الصباح بينما كان مُحَمَّادْ والإمام مَشغولين ببناء الكوخ.
ولكن عندما كان مُحَمَّادْ والإمام متجهين إلى منزل دامي لتناول الغداء، كانت السماء صافية واختفت الريح الخفيفة وصار الجو أكثر حرارة.
وبينما كانا يأكلان، جاءت دامي إليهما وقالت، وهي تنظر بلطف إلى مُحَمَّادْ:
- هاتان بطانيتان لك يا مُحَمَّادْ. إنهما قديمتان بعض الشيء، لكنهما ستفيان بالغرض، آمل ذلك.
- شكرًا لك يا خالة.
في طريق العودة من توشكي، كانت الريح قوية - قوية لدرجة أن البغلة بالكاد كانت تستطيع التحرك. وكانت السماء مظلمة، بلا هلال ولا نجمة. ومع ذلك، عندما كان يدخل أزلو، لم يستطع مُحَمَّادْ إلا أن يسلك أقرب طريق إلى منزل يَطّو. ألقى نظرة على مسكنها ثم انصرف نحو كوخه.
ولم تهدأ الرياح القوية حول الكوخ طوال الليل حتى عَسُر على مُحَمَّادْ النوم.
وفي الصباح، حَدثت مشكلةٌ أخرى، هذه المرة مع الشمس. ففي طريقه إلى المرعى حيث كان من المقرر أن يلتقي بعيسى، رأى مُحَمَّادْ ثلاثة أشخاص بالغين وخمسة صغارا، كانوا جميعًا يرمشون ويتصببون عرقًا. وكان هو نفسه يتصبب عرقًا عندما جلس بجانب عيسى على بقعة رملية تحت شجرة أرگان. كان مُحَمَّادْ هناك ليُلقيَ درسَه الأول على عيسى، وأيضًا ليُتيحَ لنفسه فرصةً لإلقاء نظرة عن كثب على منزل يَطّو.
ورغم الحَرِّ الخانق، بَقي هناك حتى وقت الغداء، ولكن لم يَر ليَطّو أثرا. رأى والدَها، رأى أمها، رأى أخاها، لكن لم يَرها هي.
وحتى عندما أخذ بغلته وانطلق إلى توشكي ومَرَّ بمنزلها، لم يرها.
وفي طريق عودته من توشكي في وقت متأخر من الليل، صاح مُحَمَّادْ غاضبا: هذا يكفي! أَكادُ أُجَنُّ! لقد غادرتُ هذه الأرض لأَتَعلم المزيد عن العالَم، وعن الحياة وعن الله. وها أنذا أبدو الآن وكأنني لا أعرف شيئًا على الإطلاق!
أخذه النوم بعيدًا لبضع ساعات، ثم استيقظَ وجلس. وبدأ يُفكر. فَكر وتنهد ثم فكر وتنهد حتى انفجر فجأة: هل أنا أحب الله أم أحب يَطّو؟ أريد فقط أن أعرف!
وجده الصباح جالسًا مرة أخرى مع عيسى في مرعى ليس بعيدًا عن منزل يَطّو. كان يتحدث و عيسى يستمع إليه باهتمام. وفجأة قال عيسى:
- لماذا تجلس دائمًا هكذا، مواجهًا ذلك المنزل، وفي كل مرة تنظر إلى هناك تتنهد؟ لماذا؟
- أنا أُحب الجلوس هكذا.
قالها مُحَمَّادْ وقد احمَر وجهُه خجلا.
نَظر إليه عيسى نظرةَ غيرِ المُصَدِّقِ لكنه التزمَ الصمت. فَنَظر مُحَمَّادْ نظرةً طويلة إلى الصبي، ثم قال بنبرة مُتردِّدة:
- قل لي، ياعيسى: ما الذي يُمَيِّز ذلك المنزل؟
- فيه تعيش امرأة شابة .
- وما الذي يُمَيِّز هذه المرأة الشابة؟
- يقولون إنها فائقة الحسن و الجمال.
- وكيف عرفتَ ذلك؟
- سمعتُ بعض الأولاد يتحدثون عنها.
- هل رأيتَها بنفسك؟
- لا.
- لكنها جارتك؟
- إنها تظهر للنساء فقط.
- حسنًا! الآن وَقد أخبرتَني بكل هذا، يا عيسى، أعتقد أنه كان ينبغي علي أن أجلس هكذا!
ثم أدار ظهره لمنزل يَطّو، مِما جعل الصبيَّ ينفجر ضاحكا.
ساعاتٍ بعد ذلك، نظر كل من الإمام ومُحَمَّادْ بفضول إلى الرجل الشاب الذي انضم إليهما في الصلاة. عرف الرجلُ منهما ذلك فبَادَر بِشرح ما جَرى و قال بلهجة تاشلحيت:
- أنا من سوس.
قال الإمام:
- أهلا و سهلا.
- بارك الله فيكم، سيدي.
- ما الذي جاءَ بك إلى هذه البلاد؟
نظر الرجل السوسي إلى مُحَمَّادْ و أجاب مُبتسما:
- إنها قصةٌ طريفة!
- إِذَن لِنَخرجْ من هنا واحْكِ لنا قصتك.
جلس الثلاثة في شكل مُثلث على الجانب الشمالي من المسجد. ثم بدأ السوسي قصته:
- صباحَ أمسِ، كنت أنتظر دوري عند الحلاق بالسوق عندما أتيتَ (وأشار إلى مُحَمَّادْ) وجلستَ أمامي. لا أظُنُّك تتذكرني لأنك لم تنظر إليّ أصلًا. وهذا أولُ شيء لَفت انتباهي فيك. ثم لاحظتُ أن جميعَ من كانوا في المحل كان لديهم ما يقولونه. أنا وأنت فقط لم نَتكلم. أنا لَم أتكلم لأنني لا أُتقن لهجةَ هذه البلاد، وإن كانت قريبةً من لهجتنا. لكنني دُهشت من طريقة جلوسِك هناك، صامتًا بلا حراك كجثة هامدة، جالسًا وعيناك مُغلقتان، مُنتظرًا دورَك بصبر. لاحظت أيضًا أنك كنت ترتدي قميصا أزرق سماويًا، بينما كان جميع الآخرين، بمن فيهم أنا، يرتدون الجلابيب. وبينما كنت أنتظر، خطر ببالي أن أتنازل عن دوري لك. وهذا ما فعلته، ولكن حتى حينَها لم تنظر إلي. قلت فقط شكرًا وأنت تنهضُ من مَقعدك. في البداية لم أعرف لماذا فعلتُ ذلك، ولكن كانت دهشتي عظيمة عندما سمعتُك تقول للحلاق: "شاربي فقط". في تلك اللحظة، عزمتُ على مغادرة المَحل والاختباء في مكان قريب لأرى إلى أين ستذهب وماذا ستفعل. لقد قفزَ قلبي عندما رأيتُك تغادر محل الحلاقة. ثم تبعتُك. ذهبتَ لشراء هذا الجلباب الذي ترتديه الآن.
قال مُحَمَّادْ والإبتسامة لم تفارق شفتيه:
- ومذا بعد ذلك؟
- بعد ذلك تبعتُك وأنت تخرجُ من السوق وعُدتَ بسرعة إلى مسكنك. توقفتُ على بُعدِ مسافة قصيرة من ذلك المسكن واختبأت وسط القصب وانتظرت لأرى ما ستفعله لاحقًا.
قال الإمام وهو ينظر مرة إلى مُحَمَّادْ ومَرة إلى السوسي :
- إنها لقصة عجيبة حقًا!
فقال مُحَمَّادْ للسوسي:
- أتمِم!
- نعم، ثم بَقيتُ مُختبئًا أُراقبك حتى غادرتَ مسكنَك وأتيت إلى المسجد. لم أُرِد أن ألتحق بك حينَها، لأنني كنت أردتُ أن أعرفَ المزيد عنك. رأيتُكَ تعود إلى مسكنك فقط لتأخذ البغلة وتذهب. فقررت البقاء في مخبئي حتى تعود. وأثناء غيابك، أخذت بَغلي إلى مكان أسفلَ الوادي، ثم صعدتُ وسلكتُ طريقا عبر القصب، محاولًا ألاّ أترُك أي آثار. ثم وقفت بالقرب من مسكنك قدر استطاعتي؛ كان الباب مفتوحًا جزئيًا ويُمكنني الرؤية من خلاله؛ ومرة أخرى اندهشت من مسكنِك كما كنتَ مندهشًا منك شخصيًا. وتساءلت مع نفسي: لماذا اختار أن يعيش في هذا الكوخ الصغير؟ وتساءلت: لماذا ذهب هذا الرجل إلى السوق سيرًا على الأقدام بينما كان لديه بغلة؟! قلت لنفسي: فإما أَنه مَعتوه أو إنه عالمً و عارِف بما يصنع. لذلك قررت أن أنتظر وأرى، قائلاً لنفسي: إذا كان أحمقًا، فسأَتركه على الفور و أذهب لحالي؛ وإذا كان عالماً، فسأبقى معه يوماً أو يومين لأتعلم منه شيئاً ثم أُواصل طريقي.
فسأله الإمام بشيء من الفضول:
- إلى أين كنت ذاهباً؟
قال مُحَمَّادْ بلطف:
- دَعه يُكمل قصته!
- نعم، وانتظرتُ حتى عُدتَ في منتصف الليل. في ذلك الوقت كنت أرتجف من البرد، وكنت مرعوباً من احتمال أن أتعرض للدغة عقرب أو ثعبان. كنت على وشك أن ٱتِيَك في مسكنك في ذلك الوقت من الليل، إلا أنني تراجعت وقررت أن أنتظر هناك إلى الصباح.
هنا صاح مُحَمَّادْ صيحةَ مُفكر و هو يفتح ذراعيه ليعانق السوسي. ثم وقفا و تصافحا. وقال مُحَمَّادْ:
- كنتَ تريدُ أن تعرفَ إن كنتُ أحمق أم عالمًا، أليس كذلك؟ حسنًا، صَدِّق أو لا تُصَدق، أنا نفسي لا أعرف إن كنتُ أحمق أم عالمًا. أنت من سيخبرني من أنا! لكن قل لي، إلى أين كنت ذاهبًا؟
- أنا طالبُ عِلمٍ. كنتٌ أَدرُس في مدارسَ في فاس. وكنت عائدًا إلى بلدتي. أنا من سوس، كما قلت لك.
- رائع! ما اسمك، يا أخي؟
- اسمي حسن تيكوين، وأنت؟
- وأنا مُحَمَّادْ أمگون. أهلاً بك يا حسن! لكن يُؤسِفني أن أقول لك إنني قد لا أتمكن من البقاء معك طِوال اليوم. فأنا مُرغَم لتركِك لبضع الوقت حتى أُدَرِّسَ صبيا في الصباح ورجلا بالغا بعد الظهر.
فقال حسن بلهفة:
- ماذا تُعلِّمُ الصبي؟
- أُعلِّمه كيفية إجراء حسابات بسيطة.
- حسنًا! دَعْ هذا لي! أنت وأنا سنبقى معًا في الصباح، أليس كذلك؟ وعندما تذهب بعد الظهر، سأبقى أنا مع الولد. هل يناسبك ذلك؟
أجاب مُحَمَّادْ بابتسامة عريضة:
- لِنذهب ونسأل الولد أولًا!
وعندما انطلقا، قال مُحَمَّادْ:
- كم عمرك يا حسن؟
- عمري أربعة وعشرون عامًا.
- هل أنت متزوج؟
- لا.
- لِم لا؟
- في الواقع، كنت عائدًا إلى بلدتي لأتزوج وأبدأ حياتي كمُعلم في إحدى المدارس القرآنية القليلة القريبة منّا.
- من ستكون زوجتَك؟
- لا أعرف، حقًّا. ستختار لي والدتي واحدة.
- متى غادرتَ فاس؟
- منذ حوالي أربعة أشهر.
- كم مَكثتَ هناك؟
- مكثتُ هناك حوالي أربع سنوات.
- ماذا درستَ هناك؟
- كلَّ شيء.
- مِثل؟
- حسنًا، درَستُ القرآن الكريم والحديث والتفسير واللغة العربية والتاريخ والحساب - كل شيء.
- رائع!
قال حسن مترددا:
- وماذا عنك؟
تنهد مُحَمَّادْ وقال:
- أنا أيضًا كنت في فاس. وأنا أيضًا درست الأشياء التي ذكرتَها آنِفاً.
- هل أنت مُتزوج؟
- لا.
- كم بلغتَ من العمر؟
- عمري يُقارب التاسعة والثلاثين.
- هل سَبق لك أن تزوجت؟
- لا، أبدًا.
- هل أنت هنا منذ فترة طويلة؟
- لا. عُدت قبلَ عشرة أيام فقط.
- من فاس، تقصد؟
- لا، من مكان يُسَمى تماسنا، هل تعرفه؟
- نعم، سمعت به.
- في واقع الأمر، لم آتِ إلى هنا مباشرة. اتجهتُ جنوبًا إلى إغميزن، حيث قضيت أكثر من ستة أشهر. غادرتُ إغميزن قبل أكثر من شهرين بقليل. الآن، أخبِرني يا حسن. قلتَ إنك ستعود إلى بلدتك لكي تتزوج وتبدأ عملك كمعلم. فماذا تنوي أن تعُلِّم الناس؟
- نفسَ الأشياء التي تعلمتها.
- إذَن، لماذا توقفت هنا ورغبت في ملاقاتي؟
- أردتُ أن أتعلم منك شيئًا.
- مِثل؟
- أي شيء.
- وماذا لو قلتُ إنني آسف، ليس لديّ ما أُعلّمك إياه أكثر مما تعرفه بالفعل؟
- ماذا تقصد؟
- حسنًا، أعني ليس عندي كتبٌ أُدَرِّسُكَها.
- ربما ليس لديك كتب على الورق، لكن بالتأكيد لديك كتب في ذهنك، أليس كذلك؟ من المؤَكد أنك حفظت أشياء من الوقت الذي كنت فيه في فاس أو في أي مكان آخر، أليس كذلك؟
- بَلى، لديّ. لكن المشكلة هي أنني أكرَه استظهار الكتب.
- ماذا تعني بذلك؟
- ما أقصده هو هذا: يُمكنني أن أُناقشك، لكن لا يُمكنني أن أُعلّمك.
- حسنًا! لنتناقش!
- ليس قبلَ أن نسأل الصبي! عيسى، هل تسمعني؟
تكلما مع عيسى، ثُم عادا صَوبَ الكوخ وهما يتحدثان في الطريق. قال حسن:
- أتأذنُ لي أن أسألَك سؤالاً واحدًا، مُحَمَّادْ. لماذا اخترتَ العيش في هذا الكوخ الصغير؟ ألستَ من هذه القرية؟
- بلى، أنا من القرية. عائلتي تسكن هناك.
- لماذا تعيش في كوخ، إذن؟
ضحك مُحَمَّادْ، ثم قال:
- قل لي، حسن، عندما تنام، أوتغفو، وتبدأ في الحلم، هل تعرف أين تنام؟ لنفترض أنك كنت تنام في سرير مُريح في غرفة جميلة في ذلك المنزل البَهي هناك، ثم جاء شخص ما ونَقلَ سريرَك، دون أن يوقظك، ووضعه برفق في كوخي، هل ستشعر بأي فرق قبل أن تستيقظ؟
قال حسن بابتسامة خفيفة:
- لا أعتقد أنني سأشعر بذلك. لكن المشكلة هي أنك لا تملك سريرًا مريحا في كوخك، أليس كذلك؟
ضحك مُحَمَّادْ مرة أخرى، وأمسك بذراع حسن، وقال:
- لِنتوقف قليلًا! انظر هناك: تخيل نفسك مُغرَمًا بفتاة شابة تعيش في ذلك المنزل؛ تخيل أن الوقت الوحيد الذي يمكنك فيه رؤية حبيبتك هو بُعَيد الفجر، ولكنك مع ذلك لا تستطيع أن تلتقِيَ بها ولا أن تُكلمها ولا حتى أن توحِيَ إليها بإشارة ولو من بعيد؛ ماذا عساك تفعل في هذه الحالة؟
- على الأرجح سآتي قبل الفجر وأجلس في مكان ما هنا وأنتظر ظهورها.
- وهل ستأتي بسريرٍ حسنٍ أو بِأَريكةٍ مُريحة تجلس عليها هنا مرتاحاً وأنت تنتظر ظهور حبيبتك؟
ضحك حسن وقال:
- أوه، لا!
- لنفترض أن حُبَّكَ أرغمك على أن تفعل ذلك- أعني، أن تأتي وتجلس هنا وتنتظرَ يوما بعد يوم، أسبوعاً بعد أسبع، شهراً بعد شهر، هل ستشتكي من ذلك؟
- قد أشتكي، لكن في آخر المطاف، سأبتسم وأَتحَمل ذلك.
- من أجل من ستتحمل كل هذا المعاناة؟
- من أجل حبيبتي، طبعاً!
- فماذا لو اخترت أنا أن أعيش في كوخ حقير وأن أنام على أرضية خشنة وأتحمل معاناتي بصبر وجَلد من أجل رِضا خالقي؟
صمت حسن لحظة، ثم انفجر قائلا:
- ولكن من أرغمَك على أن تُعاني إذا كان بإمكانك أن تكون أفضل حالاً؟
تنهد مُحَمَّادْ وقال: يا أخي، لقد كنت مشتاقاً إلى العودة إلى هذه القرية لكي ألتقيَ بأهلي بعد طولِ غياب. ومِثلك، عدتُ إلى هنا على أَمل الزواج من امرأة من القرية. لم أُرِد الزواج من امرأةٍ غريبة عن أسرتي، خشيةَ إغضاب أمي. ولكن عند عودتي، سَخِط عليَّ الجميع لأني عُدتُ بجيوب خاوية. طلبتُ من أهلي مساعدَتي على الزواج من فتاةٍ من القرية، لكنهم رفضوا بِدعوى أنني فقيرٌ لا أملك شيئاً.
نظر حسن إلى مُحَمَّادْ نظرةً فيها خليط من الجد و الفضول، ثم قال:
- مادام وقع لك ما وقع، فلماذا بقيتَ هنا؟ لماذا لم تذهب إلى مكان آخر حيث يمكنك الزواج؟ أعلمُ أن العديد من الرجال تزوجوا على الرغم من افتقارهم للمال؟
تنهد مُحَمَّادْ مرة أخرى، ثم نظر إلى حسن وقال بابتسامة حزينة:
- ليتَني أستطيع!
- وما الذي يَمنعك؟
تنهد مُحَمَّادْ مرة ثالثةً وقال:
- الحُب!
- هل أنت عاشِق؟
- نعم.
فَغَر حسن فاه ثم صمت.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire