النسخة الإنجليزية
THE TAILOR OF MOGADOR
الفصل الثالث
جاءه رجلٌ غريب ذات يوم، وقال له: أنا من قبيلةٍ تُسمى لمناصرة، بالقرب من آسفي. كان ابن قائد قبيلتنا راكبًا عائدًا إلى المنزل عندما صادف عمي داود في مكان ما بين الشياظمة وعبدة. وجد في سلة عمي داود ثلاثة فساتين أبهرته حقًا. خاف عمي داود، لأنه عرف أنه ابن القايْد. لذلك قال ابن القايْد: لا تَخفْ يا عمي داود! سأدفع لك ثَمن هذه الفساتين الثلاثة. لكن يجب أن تخبرني من صنعها! رفض عمي داود. دفع ابنُ القايد ثَمن الفساتين، وأخذها إلى زوجته. لذلك توسلَت إليه جميعُ نساءِ عائلته أن يُرسل شخصًا ما في جميع أنحاء البلاد لإحضار الخياط الذي صنع تلك الفساتين. وهكذا قال لي ابن القايد: عليك أن تتعقب هذا الخياط المجهول. أريده بجانبي وسأعطيه أي شيء يريده. استغرقَ الأمرُ مني شهرًا كاملاً للوصول إليك. الآن، إذا كنت تريد حقًا أن تكون سعيدًا، وأن تكسِبَ المزيد من المال، وأن يكون لديك زوجة جميلة، فهذه فرصتك!
لم يُجادِل الطاهر. ولم يُساوِم. ذهب فقط إلى منزل مُتَدرِّبه واعتذر لعائلته. أعطاهم ثلاث دجاجات وديكًا ووضع عُملات معدنية في يد الصبي، ثم عاد إلى الغريب.
استقبلهم ابن القايد بأذرع مفتوحة.
قال للطاهر، و قد جَمع حولَه سلهامَه:
- أنا سعيد لأنك أتيتَ!
رَدَّ الطاهر بخجل:
- وأنا أيضًا!
- على الرحب والسعة! الآن، سيُعطيك سْعيد شيئًا تأكلُه ويُريك غرفتك.
- شكرًا لك، نْعَمَسْ.
وهكذا أخذ سْعيد الطاهر إلى غرفة صغيرة خارجَ فناءِ مبنىً كبيرٍ من طابق واحد. قال سْعيد، مشيراً إلى الطاهر للوقوف عند باب الغرفة:
- انتظر لحظة! دعني أقوم بترتيب غرفتِك!
لم يَنطق الطاهر بكلمة. استدار فقط وألقى نظرة على المرأة التي كانت تُحرِّك شَكوَةً في أحد أركان الفناء، وعلى المرأة الأخرى التي كانت تجلس بجانبها وكانت تطحن شيئًا في رَحى، وعلى الرَّجُلين اللذين كانا في رُكن آخر من الفناء يصنعان سلال القصب، ثم نَظر إلى الدجاج الذي ملأ المكان.
وقال سْعيد فجأةً:
- الغرفة جاهزة الآن. استرح! سأُحضر لك شيئًا تأكله.
وبعد ساعة عاد سْعيد ونادى على الطاهر. فخرج الطاهر من الغرفة وهو فاغر فاهُ. رأى جَمَلين مُحَملين بالذرة غير المقشرة. قال سعيد: تعال وساعدنا في تفريغ هذه! ثم اندفع كل النساء والرجال الذين كانوا في الفناء إلى الأمام. وانضم إليهم الطاهر أثناء إنزال الحمولة. ثم قاد سعيد الجِمال إلى خارج الفناء وعاد للانضمام إلى الجماعة التي بدأت تُقشر الذرة. كان الطاهر مليئًا بالأسئلة : من أين جاءت هذه الذرة؟ ولماذا لم يتم تقشيرها من قبل..؟. لكنه سعى جاهدًا لإبقاء فمه مغلقًا.
عاد ابن القايد بعد فترة ووَقف خَلْفَ الطاهر، ورَبَّتَ على كتفه، وقال: تعال! نهض الطاهر على قدميه وتبِع ابنَ القايد إلى خارج المبنى. ثم ركِب ابن القايد حصانَه وسار بسرعة بطيئة دون أن ينظر إلى الوراء. لم يَدْرِ الطاهر ماذا يفعل، فركض خلفه. وتوقف ابن القايد عند باب منزل جميل كبير مُحاط بحديقة. وقال وهو ينزل عن الحصان: تعال! فركض الطاهر إلى جانبه وهو يلهث. ثم وقفتْ في منتصف الفناء أربع نِسوة: اثنتان بيضاوان واثنتان سمراوان. أمسك ابن القايد بالطاهر من مؤخرة عنقه ودفعه نحو النساء، اللائي كُنَّ يَبتسمن وينظرن إلى الطاهر، وقد غرِقن في دهشة صامتة. قال ابن القايد وهو ينظر إلى إحدى المرأتين السمراوتين: هذا هو الخياط. أخبِرنَه بما تُرِدْن ثم أرسلنه إلى الدوار. أنا ذاهب إلى المدينة. لم تنطق النساء بكلمة. انتظرن حتى غادر ابن القايد، ثم نظرت المرأة السمراء التي تحدث إليها ابن القايد حولها وقالت: لِنَنْتقل إلى الظل! وبينما هُنَّ ذاهِباتٍ إلى هناك تشاجرت النساء فيما بينهن حول من يجب أن تجلس في أي مكان. في النهاية اصطفَفْنَ امثل أربعة فتيات أمام الطاهر.
قالت إحدى المرأتين السمراوتين:
- أنا زوجة ابن القايد.
انحنى الطاهر قليلاً، وتمتم بالتحية بينما تابعتْ تلك المرأة:
- وهذه حماتي. (أشارت إلى امرأة بيضاء طويلة في الأربعينيات من عمرها.) هذه أختي. (أشارت إلى المرأة السمراء الأخرى.) وهذه ابنة عم زوجي. (أشارت إلى المرأة البيضاء الأخرى.) والآن أخبِرْنا، ما نوع الفساتين التي تصنعُنها؟
قال الطاهر بصوت مرتجف قليلاً:
- أنا أصنع الگندورة.
قالت زوجة ابن القايد:
- ألا تصنع التكشيطة؟
- أستطيع أن أصنعها. ولكنني أحتاج إلى مساعدة شخص آخر. وأحتاج أيضًا إلى الكثير من المواد الجاهزة للاستخدام.
- أنت بحاجة إلى متدرب، أليس كذلك؟
- ربما أحتاجُ إلى مُتَدرب وإلى رَجل بالغ أيضًا.
- حسنًا، سأُخبِر زوجي بذلك. الآن عُدْ إلى الدوار. سنُرسل لك مَّيْنَة بمطالبنا.
- حسنًا، سيدتي.
قالت زوجة القايد:
- انتظر لحظة!
فَردَّت زوجة ابنِها بسرعة، وهي تُحدق في الطاهر:
- قلت اذهب!
انحنى الطاهر وهَروَل عائدًا إلى الدوار. عاد إلى الجماعة التي كانت مُنهمكة في تقشير الذرة ولم يتحرك من مكانه حتى أُمِر بالدخول إلى غرفته.
عندما كان بمفرده في السرير ليلاً، فكر في مَّيْنَة. قالت زوجة ابن القايد إنها سترسل مَّيْنَة إليه. على عكس السمراء التي اتخذها ابنُ القايد زوجةً له، كانت مَّيْنَة تتمتع بشيء من الجمال ووجهُها لطيف إلى حد ما. لكن الطاهر لم يَعُد مهتمًا بوجهها الآن. ربما كانت متزوجة، بالنظرِ إلى عمرها. كانت في الرابعة والعشرين من عمرها على الأقل. وكانت ابنة عم ابن القايد. ما يريده الطاهر الآن هو شخص - أي شخص - يمكنه أن يُفَرِّغَ قلبه عليه. لقد شعر بإذلال عميق. وهاهو يُفكر وقلبه مليء بالأسى: تركت موگادور لأن إسماعيل عبَس في وجهي. وحْسَين سَبَّني. لقد غضبت لذلك. لكن الآن حَوَّلَني ابن القايد إلى عَبْد. لقد جعلني أركض خلفه بينما كان هو على ظهر حصان! أتساءل ما الذي ينتظرني إذا كان هذا ما حدث لي في يومي الأول هنا. هل كان هذا شيئًا سيئًا، كما قال عمي عبد الرحمن؟ ( تَنهَّد.) تمَنيت لو أستطيع الذهاب إليه لِيَدعوَ لي مرة أخرى. لكن - للأسف! - أنا الآن عَبد. لا أستطيع أن أفعل أي شيء. أوه، نعم، يمكنك أن تفعل شيئا! لماذا لا تدعو الله أن يُنقذك من هذه المِحنة؟ يا الله! ليس لدي إله غيرك، نجِّني من هذا! أتوسل إليك!... استمر الطاهر في الدعاء حتى امتلأت عيناه بالدموع.
ثم فجأة، تذكر عائلته. قال في نفسه: لم أخبرهم بأي شيء. لقد تخيلتُ بسذاجة أنني قد أكون سعيدًا هنا. ماذا سيحدث لوالدي وأمي إذا لم أَعُد في وقت قريب؟
عند أول صياحٍ للدِّيَكة استيقظ الطاهر، لكنه لم يستطع مغادرة غرفته حتى سمع أصواتًا. كان النهار قد بدأ. كان الرجلان اللذان كانا يصنعان سِلال القصب عند وصول الطاهر إلى هذه البلدة يجلسان الآن على حافة كومة الذرة. سار الطاهر بِحَياء نحوهما وحيّاهما بابتسامة. بمجرد أن جلس، قال له أحد الرجلين: ألا تغسل وجهك؟
قال الطاهر، وقد شعر براحة كبيرة:
- لا أعرف أين؟
- حسنًا، توجد بِئر خارج الدوار مباشرة.
- لم أرها.
سَأُريكَها. يُمْكنك بعد ذلك أن تَسْحب الماء وتشرب وتغتسل كما يحلو لك. لن يقول ابن القايْد شيئًا. إذا كنت تريد أن تقضي حاجتك، فيمكنك الذهاب إلى المزبلة. إنها خلف الدوار.
- هل يمكنني الذهاب الآن؟
- نعم. تعال! سَأُريكَها.
ذهب الطاهر ليقضي حاجته ويروي عطشه وتوضأ وصلى صلاة الصبح. ثم عاد إلى الجماعة التي كانت تُقَشر الذرة وانتظر مَّيْنَة.
جاءت مَّيْنَة في وقت متأخر من الصباح. وكان معها صبي يحمل سلة صغيرة في كلتا يديه.
قالت مَّيْنَة وهي تنظر إلى الطاهر الذي كان مشغولاً بتقشير الذرة:
- أين غرفتك؟
إنها هناك! (مشيراً إلى باب الغرفة)
قالت مَّيْنَة بِحَياء
لندخل هناك!
كان الصبي أولَ من دخل ووضع السلة وغادر. جلست مَّيْنَة على السرير والطاهر على الأرض
قالت مَّيْنَة وهي تلتهم الطاهر بعينيها السوداوين
أرسلَتْ لك زوجةُ ابنِ القايد بيضاً مسلوقاً وخبزاً في هذه السلة
شكراً لك
وفي هذه السلة الأخرى قطعتان من القُماش. اصنع گندورة لزوجة ابن القايد
إن شاء الله. ولكنكِ تعلمين أنني بحاجة إلى مُتَدرب
الولد الذي عند الباب سيكون مُتدربَك
حسنًا! ولكنني ما زلتُ بحاجة أيضا إلى بعض المواد الأخرى، مثل سلة الخياطة، وخيوط القطن، وخيوط الحرير، وكشتبان، وغير ذلك
أعلم. ستحصلُ على كل ذلك، ولكن الآن، اسمح لي أن أسألك سؤالاً، مُمكن؟
أخبرني شيئًا عنك
شيء مثل ماذا؟
ما اسمك؟ من أين أنت؟ هل أنت متزوج؟ هل لديك أطفال؟ إذا لم تكن متزوجاً، هل أنت تُحب؟ من هي حبيبتك؟ لماذا لم تتزوجْ بعد؟
فوجئ الطاهر بهذا السَّيل المفاجئ من الأسئلة، فنظر حوله ثم قال
أخشى أن يأتي ابن القايد فيسمعنا
ابن القايد موجود في المدينة الآن. علاوة على ذلك، لا يوجد شيء مخزٍ فيما سألتك عنه
حسنًا، اسمي الطاهر... وأجاب على جميع الأسئلة، ثم سأل بِدَورِه
وماذا عنك؟
حسنًا، لقد سألتك فقط؛ لم أُجبِرك على الرَّد. إلى اللقاء
تركتْ مَّيْنَة الطاهر وهو يَغلي من الغضب. لقد سَخرَت منه، وكان عليه أن يتحمل ذلك. لم يستطِع إظهار غضبه. لم يكن لديه وقت للتفكير في نفسه. كان الصبي ينتظر عند الباب. لذا رتَّب الطاهر ملامِحه ودعاه للدخول، فلما دخل قال له بابتسامة مُصطَنعة
ما اسمك يا فتى؟
اسمي العربي
- من أين أنت؟
- أعيش في دوار قريب.
- الآن ستكون متدربا عندي، أليس كذلك؟
- نعم.
- حسنًا. لكن كما ترى، ليس لدي سوى هذه القِطع من القُماش. كما قلتُ لِمَّيْنَة، أحتاج إلى مواد أخرى. لذا يمكنك الذهاب الآن. ستُعيدُك مَّيْنَة إليّ لاحقًا. أراك بخير.
غادر الصبي. استلقى الطاهر على السرير وبدأ يفكر فيما يجب أن يقوله لِمَّيْنَة عندما تعود
وهكذا وجد نفسه ينتظرها بفارغ الصبر. لم يستطع أن ينسى نظرتها الأولى إليه. لم يستطع أن ينسى أنها دخلت غرفته وجلست على سريره وتحدثت معه كعاشِقة واستمعت إليه وكأنها تعشقه منذ مُدة ونظرت إليه بعيون امرأة مليئة بالحسد. رُبما لهذا السبب استهزأتْ منه. ربما أصبحت تَغار من الزاهية.
عادت مَّيْنَة بعد ثلاثة أيام وقالت:
- أتساءل ماذا ستفعل الزاهية إذا علمتْ أنك هنا.
قال الطاهر دون أن يرفع عينيه:
- هل تغارين منها؟
فقالت مَّيْنَة وهي تُركز نظرها على الطاهر:
- نعم.
فزِع الطاهر ورفع بصره إليها وقال:
- لماذا؟
- لا أحب أن يتحدث الرجال عن نساء أخريات في حضوري.
- لكنكِ متزوجة، لماذا تهتمين؟
- مَن أخبركَ أنني متزوجة؟
كان الطاهر في حيرةٍ مِن أمره. بقيَ يتأملُ وجهَ مَّيْنَة البشوش بينما كانت هي تنظر إليه بحنان.
قالت مَّيْنَة فجأة:
- ما الأمر؟
تمتم الطاهر وهو ينظر إلى أسفل:
- لا أعرف.
- حسنًا، لقد أتيتُ إليك اليوم لأنني أريدكَ أن تصنع لي كسوة. ها هو القماش.
قال الطاهر في شرود:
- حسنًا.
في تلك اللحظة لمسَت يدُ مَّيْنَة يدَه وشعرَ أنها تضغط بِيدها على يدِه.
كان الصبيُّ قد خرج منذُ بعض الوقت، لكن الطاهرَ وجد نفسه في حالة ارتباك. قال:
- من فضلكِ دعيني لوحدي الآن! أراكِ قريبًا.
- حسنًا! إلى اللقاء.
هذه المرة تركتْ مَّيْنَة الطاهرَ وهو يحترقُ بالرغبة. ومنذ اللحظة التي غادرَت فيها انتظرَ عودتَها بفارغ الصبر. لكن الصبيَّ لم يستطع أن يرى شيئًا من ذلك.
عندما كان الطاهر وحدَه تلك الليلة حرَّكت كلماتُ الزاهية قلبه. أَلَم تكُن الزاهية قد قالت له : أردتُ أن تُطَهِّر قلبكَ وعقلك من زينة؟ ماذا ستقول الزاهية الآن إذا علِمتْ أنه وقع في حب مَّيْنَة؟
وهكذا عمِل الطاهر على كسوة مَّيْنَة، واضِعًا قلبَه وروحَه في عمله. وإذا ظهرت له الزاهية في خيالِه ووَجهت له ملاحظة أو تهديدًا، فإنه سيَطردُها ببساطة بعيدًا عن وِجدانه كما يفعلُ مع الذُّباب الذي يَطير في غرفته.
وعادت مَّيْنَة لتسأل عن كسوتها. قالت وهي تجلس على السرير وتُشير للصبي بمغادرة الغرفة :
- إلى أين وصلتَ في الفساتين؟
- حسنًا، أنا على وشكِ الإنتهاء تقريبًا من گندورة زوجةِ ابن عمك، لكنني ما زلت أعمل على كسوتِك أنتِ.
- أرِني الگندورة لِأراها؟
- حاضر! هاهي!
التقطَ الطاهرُ الگندورة وعلَّقها بكلتا يدَيه بطريقةٍ بدَت وكأنها سِتارةٌ تُخفيه هو و مَّيْنَة من أعيُن أي متطفل محتمَل. بَدا أن مَّيْنَة أحبَّتْ ذلك. قال الطاهر وهو يلقي نظرة على شفَتَي مَّيْنَة الحمراوين:
- انظري كَم هي جيدة!
نظرت هي أيضًا إلى شفَتيه المُرتعشتين، ثم إلى عينَيه البُنِّيتَين، وقالت: أنت جبان!
أسقطَ الطاهر الگندورة. نظرَ حولَه باتِّجاه الباب، ثم نظر إلى مَّيْنَة لحظة ، وتمتم:
- لماذا؟
رَدَّت:
- احمِل الگندورةَ كما فعلتَ قَبْلُ!
بِيديه المُرتعِشتين، فَعل الطاهر ذلك بالضبط. ثم اقترب قليلاً من مَّيْنَة، التي كانت تنظرُ إليه بإغراء. لم يكن فمه إلا على بُعد بوصة من خدِّها. حاوَل انتزاع قُبلة، لكنه ببساطة لم يستطع. قالت مَّيْنَة فجأة:
- ابتعد عني!
حينها فقط ألقى بِذراعه حول خِصرها ووضع يده الأخرى على فخذها. ابتسمَت. لامَسَ ظهرَها بينما كانت هي لا تزال تنظر إليه بحنان.
قالت مَّيْنَة بنبرة جادة إلى حدٍّ ما: متى ستُصبح كسوتي جاهزةً؟
أزاح الطاهرُ ذراعه عن ظهرها وجلس منتصبًا، ثم قال:
- أعتقد أنه في غضون يومين أو ثلاثة أيام ستكون كسوتُكِ جاهزةً3
قالت وهي تَنهض على قدميها:
- حسنًا، أعطِني الگندورة الآن. سأعود في غضون ثلاثة أيام.
- هاهي! ولكن من فضلِك، هل يمكنُني أن أسألكِ سؤالاً؟ من سَيدفعُ لي ثَمن الفساتين التي أصنعها لكُنَّ؟
- لا أعرف. اسأل بَلعيد!
- من هو بلعيد؟
قالت مَّيْنَة بابتسامة جذابة:
- ابن القايد.
- حسنًا.
لقد أسعدَ قلبَ الطاهر أن يرى مَّيْنَة تُعاملُه بلطفٍ لم يَحلم به من قَبْل. لَم تُفارقه ابتسامتُها لحظةً طِوال اليوم. ولكن في الليل كان مضطرِبًا. لقد رفضت الزاهية ببساطة أن تتركه. كلماتها بقيت تَرِنُّ في أُذنيه: أردتُ منك أن تُطهِّر قلبكَ وعقلكَ من زينة. ظَلت تُذَكره حتى الآن وقَد صارت مَّيْنَة حبيبَته الجديدة.
كان هناك رَعدٌ في السماء عندما عادت مَّيْنَة. نزل مَطرٌ خفيف بينما وقفتْ هي عند باب الغرفة. بَدت مذهولة.
قال الطاهر وهو يَندفع إلى الأمام للترحيب بها:
- ما الأمر؟
همَست بِيأس:
- بَلعيد موجود غيرَ بعيد عن هنا.
كان الطاهر نفسُه مُكتئبًا الآن. قال وهو يَتلعثم:
- حسنًا، لقد انتهيتُ من كسوتِك.
قالت:
- أعطِنيها.
عندما استدارَ الطاهرُ لالتقاطِ كسوتها، بَثَّ صوتُ بلعيد الرُّعبَ في قلبه. قال بلعيد بفظاظة:
- ما الذي يحدث هنا؟
قالت مَّيْنَة قبلَ أن يتمكن الطاهر من الإلتِفات وترديد كلماتها:
- لا شيء، نْعَمس.
قال بلعيد بنظرة مُرعبة:
- هل صنعتَ أي فساتين حتى الآن؟
- لقد صنعتُها، نعمس.
- حسنًا.
عندما استدار بلعيد ليذهب، غامر الطاهر وقال:
- مَعذرة، نعمس.
قال بلعيد بنفس النظرة العابِسة:
- ما الأمر؟
- ماذا عن أُجرتي، نعمس؟
- أُجرتُك؟ ما الأَجر الذي ندين لك به؟ لقد أعطيناكَ مكانًا تنام فيه. وأعطيناك طعامًا تأكله. ماذا تريد أكثر من ذلك؟
تَسللت مَّيْنَة خارِج الغرفة عندما رَد الطاهر بصوت بِالكاد يُسمع:
- نعمس، اعتقدتُ أنكَ ستدفع لي. لكن لا بأس. لا مشكلة.
- ما دام لا توجد مشكلة، اسكُت!
صَدمت شرارةُ عيْنَي بلعيد الطاهرَ وأصمَتَته. نَظر إلى الأسفل وانتظر خروج بلعيد. غادر بلعيد الحُجرة وصعد الطاهر إلى سَريره. جلس وأمسك رأسه بين يديه. ثم تمتم: أنت لا تعرفني. أنا لستُ مِمَّن ينام على الإهانة. لا أستطيع أن أتحمل أن أُذَلَّ أمام لِصٍّ مثلك.
فكّر الطاهر في كيفية الانتقام لنفسه. فكّر ليلًا ونهارًا، لأنه لم يكن لديه ما يفعله غير ذلك. لم ترجع مَّيْنَة لِأخذ كسوتها ؛ كان الصبي هو الذي أخذها إليها. ولم تَعُد هي بسبب المطر.
وحدثَ أن كان الطاهر مستلقيًا على سريره، يُفكر في عائلته وفي الزاهية، عندما وقفت مَّيْنَة عند الباب. قالت وهي تكتم عطسة:
- صباح الخير.
أجاب الطاهر و قد استوى جالسا:
- صباح الخير.
لما أتم جلوسه على السرير نظر إليها. تقدمت هي وجلست بجانبه. قالت وهي تنفخ أنفها:
هل أنت غاضب؟
- أنا لست في مزاج جيد، على أي حال.
- كيف يمكنني أن أجعلَك في مزاج جيد؟
- بإحضارِ بعض النبيذ لي.
- ماذا؟
- نبيذ..
- كيف؟
- أرسلي لي بعض الخمر مع الصبي.
- لكن عَليَّ أولاً أن أرى من أين سأُحضر لك النبيذ.. ثم عليكَ أن تختار بين الحليب والنبيذ. لا يمكنني أن أرسلَهما في سَلة واحدة.
- ابذُلي قصارى جهدك! أنا بحاجة ماسة إلى النبيذ.
- و ستصنعُ لي تكشيطة؟
- سأصنع لكِ تكشيطة.
- وعد؟
لآن استدار الطاهر نحوَها. والتقت عيناه بعينَيها. وداعب شفتَيها المُحترقتين بإبهامه المرتجف. ثم قَبَّل إبهامَه.
قالت مَّيْنَة:
- بي نزلة برد شديدة.
- لا تَنقلي نزلة البرد إلي!
- هل تُحبني؟
- نعم، أنا أحبك.
قالت مَّيْنَة وهي تبتعِد عنه فجأة:
- الآن، انظُر هنا. لقد أحضرتُ لك قِطَعًا من القُماش لتصنَعَ لنا ثلاث تكشيطات: واحدة لزوجة بلعيد، وواحدة لأمه وواحدة لي.
الطاهر، الذي كان يُداعِب فخِذها أثناءَ حديثِها، أمسكَ الآن بِقِطع القماش، وتفحَّصها، وقال:
- لكن هذه القطع بِالكاد تكفي لصُنع تكشيطة واحدة لزوجة بلعيد. إنها سمينة، كما تعلمين.
- إذا لم يكن هذا كافياً، فسأُحضِر لك المزيد في المرَّة القادمة. لا مشكلة.
- هناك مشكلة أخرى، مَّيْنَة. لِصُنع تكشيطة، كما تعلمين، سأحتاج إلى خيوط الحرير وأزرار وسْفيفة وحتى دْفيرة، إذا أردتِ. لقد أحضرتِ لي القماش فقط.
- سأُحضِر لك كل ذلك في المرَّة القادمة.
- هناك مشكلة أخرى، مَّيْنَة. صُنعُ التكشيطة يستغرِق وقتًا، كما تعلمين.
- أعرف.
الآن وضعَ الطاهر قِطع القُماش جانبًا واستدار نحو مَّيْنَة مرة أخرى. واجَهَته هي أيضًا وقالت:
- لم أكن أعرف أنك تشرب الخمر.
ابتسم الطاهر بِتِوَتُّر وهو يرفَع يدَه إلى ثَدي مَّيْنَة الأيمن، لكنه تردَّد في لمسه.
قالت مَّيْنَة بابتسامة: ماذا تفعل؟
في تلك اللحظة نظَر الصبي إلى الداخل وفغَر فاه، ثم اختفى خلْف الباب.
قالت مَّيْنَة، وقد اشتعل وجهها ناراً من شِدة الحرج:
- انتهى الأمر الآن، هل رأيت؟
قال الطاهر مُعتذِرا:
- لم أفعلْ أي شيء.
- لكن بالنسبة للصبي بَدا الأمر وكأنك كنت تداعب صدري!
- لم ألمَس صدركِ.
- إلى اللقاء. ابدأ في التكشيطة الآن.
- بالتأكيد.
- ولا تقُلْ أي شيء للصبي! سأتصدى له.
بعد ساعة، كان الطاهر يَعمل على تكشيطة مَّيْنَة. والصبي يُساعده في صمت.
في الليل، وجد الطاهر نفسَه يُصارِع أفكاره. فكَّر بِحَيرة وارتباك مُحَدِّثا نفسه:
يَبدو أن مَّيْنَة رُبَّما تكون قد اشترت صَمت الصبي. هي لم تُجادل عندما قلتُ إنني أريد النبيذ. كان بإمكاني أن أُمسِك بثديها وحتى أن أقبلها على شفتيها بالكامل لولا أن الصبي نظر إلى الداخل. أي نوع من النساء هذه؟ هل هذه هي المرأة التي ترغبُ في الزواج منها؟
لم يستطع الطاهر النوم تلك الليلة، وعند صِياح الديك شعر بأنه مُحاصَر. لم يستطع البقاء في السرير. غادر الغرفة وبدأ يتجول في الفناء. فتح أحَد الرجال القلائل الذين يعملون عادة في الفناء البابَ الأمامي، الذي كان مُغلقًا دائمًا من الخارج. لقد ارتاع ذلك الرجل عندما رأى الطاهر يتجول هناك في وقت الشفق. قال:
- ماذا تفعلُ هنا؟
قال الطاهر بابتسامة خجولة:
- لا تقلق يا عمي صالح! كنتُ فقط أتمشى.
- انظر واسمع جيدا! في المرة الأخيرة حذَّرتُك من الهرب.
- لم أَكن أُحاول الهرب. لم يَخطر ببالي أن أهرب.
- حسنًا، أنا سعيد لأنك اتَّبعتَ نصيحتي. ولكن قبل أن يأتي أي شخص آخر، اسمحْ لي أن أُقدم لك تحذيرًا آخر.
- بشأن ماذا هذه المرة؟
- بشأن مَّيْنَة.
- ماذا تقول! ماذا عن مَّيْنَة إذن؟
- اسمَع، تلك المرأة كان لها زوج. لقد تزوَّجا لمدة سِتِّ سنوات. ولكن لِسوء حظهما، لم يُرزَقا بولد. لذلك قرر زوجُها الذهابَ إلى الحج كَي يدعوَ الله لِيمنحَه الذرية. وقبل أن يذهب، كان عليه أن يطلقها، كما هي العادة. إذا سارت الأمور على ما يرام، فقد يعود في الأشهر المقبلة ثم يتزوجها مرة أخرى. واسمحْ لي أن أخبرك بهذا أيضا، إن والدَ ذلك الرجل لم يكن أقل شأناً من قائِد هذه القبيلة قَبل والد سي بلعيد. أحذرك مرة أخرى: لا تعبث بمشاعر تلك المرأة!
تمتم الطاهر وهو يَجُر قدَميه نحو غرفته:
- شكرًا لك على التحذير!
كان رأسه يَدور. سقَط على السرير. همَس لنفسه: إنه أمر لا يُصَدَّق! هذا سيجعلني مجنونًا حقًا. لا أستطيع تصديق هذا. لا أريد تصديقه. مَّيْنَة في قلبي. لا يُمكنني إخراجُها من رأسي. لكنكَ أخرجتَ زينة من رأسك. وأخرجتَ الزاهية من رأسك. لا، مَّيْنَة مختلفة. مَّيْنَة هي- (جلس مُنتصبًا.) ولكن ماذا لو كان ذلك صحيحًا؟ ما هو صحيح؟ لا يَهمني! مَهما كانت الحقيقة، مَّيْنَة هنا. إنها في قلبي!
كان الطاهر لا يزال يتصارع مع أفكاره عندما وصل الصبي.
قال الصبي:
- صباح الخير، سيدي!
ووضع السلة عند قدَمي الطاهر. رَد الطاهر التحيةَ، ثم بأيدٍ مُرتجفة، التقطَ السلة ووضعها على السرير. أخذَ الإبريق ونظر فيه. كان به خمرٌ، كما وعدت مَّيْنَة. فكر الطاهر في حيرة: ماذا علي أن أفعل الآن؟ ليس لدي أي فرصة للهروب. يجب أن أشرب هذا، وإلا سيكتشف الجميع الأمر. تردد، مع ذلك، كما لو أنه لم يشرب الخمر من قَبل. لكنه رفعَ الإبريق إلى فمه، وفي نوبة غضب، انفجر فجأةً: ماذا تظنني؟ (حَدَّق الصبي في خوف بينما رَمقه الطاهر بنظرة غاضبة، وصَرخ:) أعِدْ هذا إليها وأخبِرها أنني أريد حليبًا وليس نبيذًا! انهض! إمسك! اذهب!
كان الطاهر يرتجف من رأسه إلى أخمص قدميه عندما أعاد الصبي الإبريق إلى السلة وخرج من الغرفة. دخل صالح بعد ذلك بوقت قصير. قال:
- ما الأمر؟
نظر إليه الطاهر بعينين دامعتين، وقال:
- لا أعرف. لقد تغَلب علي الغضب فجأة عندما وجدتُ النبيذ بدلاً من الحليب في الإبريق.
- أين أرسلتَ الصبي؟
- أعدته إلى مَّيْنَة.
- لماذا؟
- ليُحضِر لي بعض الحليب.
- أنت مُخطئ إذا كُنتَ تعتقد أن أيَّ شخص هنا يمكن خِداعه من قِبَلك. أنت تَقطع حلْقك بنفسك يا فتى!
ما كادَ صالح يُغادر حتى اندفع بلعيد نفسُه إلى الغرفة مُمسكًا بِيد الصبي.
زأر بلعيد زئيرَ الأسود:
- ماذا كنتَ تفعل في هذه الغرفة أيها الوغد؟
- لا شيء، نعمس.
قال بلعيد وهو يَستدير نحو الصبي:
- تكلم!
قال الصبي خائفًا ومرتجفًا:
- رأيتُه يُداعب صدر مَّيْنَة، نعمس.
- أَسمِعت؟ أَهذا ما تسميه لا شيء؟
- أقسم بالله أنني لم أفعل ذلك.
- أَسمِعت؟ أَهذا ما تسميه لا شيء؟
- أقسم بالله أنني لم أفعل ذلك!
رأى الطاهر النجومَ في وَضَح النهار عندما طار بلعيد نحوه وسَحبه خارج الغرفة ثم ألقاه على الأرض وبدأ يركله بكلتا قدميه. دون انتظار إشارة، انضمَّ الرجال والنساء الذين كانوا هناك في الفناء. صَفع بعضهم الطاهر المسكين على ظهره، والبعض الآخر على وجهه أو مؤخرته. عندما شبع الطاهر ضرباً، نظر بلعيد حوله وصرخ، وهو لا يكاد يملك نفسه من الغضب:
- اتركوه هنا! عودوا إلى أعمالك ولا تعطوه ماءً ولا طعامًا. إنه لا يستحقه !
أجاب الجميع في انسجام:
- حسنًا، نْعَمس!
انحنى العُمال وعادوا إلى أعمالهم. ركل بلعيد الطاهر ركلة أخيرة وغادر.
لم يأكل الطاهر و لم يشرب شيئًا لمدة يومين. لم يُسمَح له بالاقتراب من البئر. وبدأ يأكل أوراق الشجر.
لَم يَرَ الصبيَّ خلال هذين اليومين. لم يتحدث إليه أحد ولم يستطع أن يُجبِر نفسه على التحدث إلى أي شخص. شعر بخجل شديد لدرجة أنه لم يستطع حتى التحدث إلى نفسه.
لكن مَّيْنَة عادت ووجدته يأكل أوراق الشجر. كان الصبي أيضًا معها، ورآه يأكل أوراق الشجر. قالت مَّيْنَة وهي تحبس دموعها:
- لماذا جعلت نفسكَ عرضة للبَهذلة؟
كان الطاهر مُتأثرًا للغاية لدرجة أنه لم يستطع التحدث. بل بدا وكأنه لا يستطيع حتى التنفس. نظر إلى السلة التي كان الصبي لا يزال يحملها في يده. التفت مَّيْنَة إلى الصبي وقالت:
- أعط سَيدك فطوره!
نظر كلاهما بغير تصديق إلى وجه الطاهر، الذي قضمه الجوع قليلاً.
ثم تناول الطاهر رشفة من الحليب، وقال: شكرًا لك!
قالت مَّيْنَة وهي تناوله الخبز:
- كُلِ الخبز!
أخذ الخبزَ منها وبدأ يأكله في صمت. ثم فجأة نظر إلى مَّيْنَة مباشرة وقال بصوت ضعيف:
- هل يمكنني الزواج منك؟
لقد ذُهِل كل من مَّيْنَة والصبي. قال الطاهر مرة أخرى، وبدا وكأنه قد فكر طويلاً وقرر حرق قواربه:
- ألا تُريدينَني؟
قالت مَّيْنَة وهي في قِمة الحرج:
- أنا آسفة، لا أستطيع الزواج من أي شخص الآن.
- لماذا؟
- ماذا سأقول لك؟ يَعلم الجميعُ أن أحد أقاربي في الحج الآن، أو رُبما هو في طريقه للعودة. لا يُمكنني الزواج في غيابه. يجب أن أنتظر حتى يعود. عائلتي تنتظر أيضًا.
جعلت هذه الإجابةُ الطاهرَ يَبدو كتُفاحةٍ ذبلت من شدة الحرارة. تجنب عينَ مَّيْنَة ثُمَّ تمتم بصوت لا يكاد يُسمَع:
- أنا آسف.
قالت مَّيْنَة بهدوء:
- أنت لطيف للغاية آ الطاهر! سَوف يُباركك الله بالتأكيد و ينعم عليك بالمرأة التي تحلم بها.
قال الطاهر، وهو يُحَول بصره إلى مَّيْنَة:
- أنا عطشان.
فقالت موينا للصبي :
- انهض! أسرِع! أحضِر لسيدك بعض الماء!
وما أن خرج الصبي من الغرفة مَدَّ الطاهر ذراعيه مُحاولا احتضان مَّيْنَة، لكنها تراجعت عنه وقالت: لا، من فضلك! كفى من هذا!
ارتبكَ الطاهر. هَمس وهو يلهث:
- لكنكِ تعلمين أنني أحبك؟
لم تَرُدَّ مَّيْنَة. نظرت بعيدًا عنه في الفراغ. عندما جاء الصبي بالماء، واجهت مَّيْنَة الطاهر وقالت:
- هل انتهيتَ من أي تكشيطة أم ليس بَعْدُ؟
قال بإيجاز:
- لا.
فقالت وهي تنهض على قدميها:
- حسنًا، . سنمنحك بعض الوقت الإضافي.
ولِمُدة ساعة كاملة، ظل الطاهر مُمَدَّداً على السرير بينما كان الصبي مضطجعا على الحصيرة.
عندما استأنف الطاهر العملَ على تكشيطة مَّيْنَة شَعُر وكأنه رَجل حُرٌّ مرة أخرى. فجأةً تسللت ابتسامة إلى شفتيه. وأطلق غَرْغَرَة حلوة نَشرت البهجة في الحُجرة التي كانت إلى وقت قريب مليئة بالكآبة. راقبه الصبيُّ بِقلق. قال الطاهر، مُدركًا حَيرة الصبي: هل تعتقد أنني جُنِنت؟ لا تُخَف! أنا بخير!
حتى مَّيْنَة أيضًا شكَّكت في عينَيها عندما عادت بعد ثلاثة أيام ووجدته يُغني أغاني دينية، أغاني غناها للزاهية. قالت بابتسامتها المعهودة:
- هل انتهيتَ من أي تكشيطة بَعدُ؟
أجاب الطاهر بصوت مُتردد، دون أن يرفع عينيه:
- سيَتم الانتهاء منها في غضون ثلاثة أسابيع.
فقالت مَّيْنَة بِصوتٍ لا يخلو من استفزاز:
- لماذا لا تنظر إلي؟
استولت على الطاهر الرغبة في فتح قلبه لها مرة أخرى، لكنه كافح كي لا يقع في الإغراء الآن بعد أن اتضحت الحقيقة. فقال ببساطة:
- لقد قلتُ لكِ إن تكشيطتَك ستكون جاهزة في غضون ثلاثة أسابيع، إن شاء الله.
فقالت مَّيْنَة بنبرة إحباط في صوتها:
- حسنًا!
غادَرَت مَّيْنَة الحُجرة. رفع الطاهر رأسه. كان قلبُه يَخفق بقوة. و كان الصبي يُراقبه بفضول.
في ذلك المساء، حدَّقَ الطاهرُ والصبيُّ بِعَيْنَيْنِ جَاحِظَتَيْنِ مِن الخوف بَينما وقف بلعيد عند باب الغرفة. لكن بلعيد كان يبتسم. بدا وكأنه عاشق غيرُ سعيد يتظاهر بالسعادة. تَحول خوف الطاهر فجأةً إلى شعورٍ بالغرور. كان بلعيد ينظر إليه بعيونِ محارب مهزوم. قال بلعيد أخيرًا وقد خطا خطوتين نحو الطاهر:
- صباح الخير.
رَدَّ الطاهر بصوت مرتجفٍ قليلا:
- صباح الخير، نعمس.
قال بلعيد بنبرة وِدِّية:
- تعال!
- حاضر، نعمس.
تبِع الطاهر بلعيد خارج الفناء. وسارا معاً باتجاه البئر.
قال بلعيد في الطريق:
- هل لديك جلبابُ آخر؟
أجاب الطاهر، مُحاولًا مَعرفة ما كان بلعيد ينوي فِعله:
- نعم، نعمس.
- حسنًا. أُريدك أن تَغتسِل وترتديَ جِلبابك الآخر. ستذهب معي هذا المساء إلى حفلة. سيكون هناك رجال ونساء. حَاول أن تكون محترمًا. إذا سارت الأمور على ما يُرام، سأُعيد لك حِصانك وسأدفع لك ثمن الفساتين التي صنعتَها، أتسمعني؟
قال الطاهر، وقد تأثر بِوعدِ بلعيد الغريب بإعادةِ حصانه إليه:
- طبعاً، نعمس!
- الآن، عد إلى عملك.
عادت رغبةُ الطاهر في الانتقام، لكنه قاوَم تلكَ الرغبة. كان خائفًا. لقد لاحظ أن بلعيد لم يَعُد على طبيعته، وقد يُؤَدي به ذلك إلى ارتكاب أسوأ الجرائم.
في المساء، كان بلعيد شابًا مَرِحًا في السابعة والعشرين من عمره. بِالنظر إلى جِلبابه وسلهامِه وحِصانه الذهبي، يُمكن لِرائيه القول إنه كان ذاهبًا إلى حفل استقبال سُلطاني. ولم يَسمَع منه الطاهر سوى كلمات أحلى من العسل. أعطاه حمارًا أسود وقال مازحًا: لِنذهب الآن!
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire