النسخة الإنجليزية
THE TAILOR OF MOGADOR
الفصل السابع
غادرا منزلَ الزاهية وركبا باتجاه القنطرة حيثُ توادعا. لكن الطاهر لم يكن قد بدأ يَتَلذَّذ بالبقاء وحيدًا مرة أخرى لِيَحلُم بالزاهية حتى نادى عليه صوت. كان ابنَ القاضي. قال بلهفة: لطاهر، أرجوك أخبِرني بكل شيء عن تلك المرأة التي أشار إليها والدي! فَكّّر الطاهر وهو يَنفجِر ضاحِكًا: كُلما زاد العددُ زاد المَرحُ والبَركةُ في الزحمة ! لكنه جلس تحت شجرة على ضفة النهر وأخبر ابنَ القاضي عن شامة. قال ابنُ القاضي فجأة: أريدُ أن أتزوج تلك المرأة! أخبِرني، كيف أصِل إلى هناك!
قال الطاهر وهو يَضحك بِمِلءِ فيه:
- إنها بعيدةٌ جدًا! لكن دَعني أُخبرك بشيء. لماذا لا تذهبُ معي إلى موگادور؟ سأُريك رجُلًا عجوزًا هناك. إنه رگراگي مثلنا. أنت تعرف أننا نحنُ رگراگة محظوظون بدَعواتنا المستجابة.
- هذا صحيح بالفعل! ولكن قل لي أين أذهب؟
- قلتُ إنني سآخذُك إلى شَيخٍ في موگادور. لقد دعا لي ذلك الرجل ويبدو أن دعواته قد استُجيب لها. لماذا لا تذهب وتطلبُ منه أن يدعوَ لك أنتَ أيضًا؟
- سأذهب معك! ولكن من فضلك لا تُخبِر أبي!
ضحِك الطاهرُ مرارًا وتكرارًا وهو يتحدث. في لحظة ما كاد يموت من الضحك. ولكن وراء مرَحه ومِزاحِه كان يُخفي شعورًا بالحسد.
لازَمَه هذا الشعورُ حتى عندما عادَ إلى المنزل. قال في نفسه: لا يوجد شيء مُمَيَّزٌ فيه يجعلني أتخيله زوجًا لشامة. (فكَّر، وشعر بالحسد يَنخُر قلبه مرة أخرى. لكنه عاد وسأل نفسه:) إذن لماذا لا تتزوجها بنفسك إذا كان هو لا يستحقها؟
بعد ثلاثة أيام كان الطاهر وابنُ القاضي في موگادور. حجَز كل منهما غرفةً منفصلة في نفس الفندق. ثم أخذ الطاهرُ ابنَ القاضي إلى المكان الذي رأى فيه عمي عبد الرحمن آخرَ مرة. ولكنهما لَم يجِداه هناك. فتَجولا في الأزِقة المتعرجة حتى وصلا إلى الزقاق الذي يسكنه الرجل العجوز. هَمس الطاهر لابنِ القاضي عندما مَرّا أمام بابٍ خشبي أزرق اللون مثل كل الأبواب الأخرى:
- هذا منزلُه. (ثم تابع) أنا آسف، لكن لا يَنبغي لي أن أحضُر معك حتى تُقابِله. أعتقد أنَّ الحصول على لقاءٍ مع هذا الرجل أصعب من الحصول على مُقابَلة مع أمير.
- لكنني لن أذهبَ إلا إذا أتيتَ معي.
- أنا آسف لا أستطيع!
- إِذاً سأتركك الآن. أراك لاحقًا.
ثم تركَ الطاهرُ ابنَ القاضي وذهب إلى المسجد. توضأ وأخذ مصحفًا من أحد الرُّفوف وبدأ القراءةَ بصوت خافِت. (فكَّر وهو يقرأ:) ها أنذا عاطلٌ عن العمل. لا أستطيع العودةَ إلى مَحل حْسين. لابُد أن حْسين أخبرَ إسماعيل بما جرى. إلى أين أذهب إذن؟ هل أذهبُ إلى خياطي المَلّاح؟ لا، يجب أن أنتظر. يجب أن أُقابِل إسماعيل أولاً. كان إسماعيل يأتي إلى هنا كُل يوم الخميس، وغدًا سيكون الخميس.
ولكن اسماعيلَ ابتعدَ عنه حين التقت نَظراتُهما للحظة في نفس المسجد. كان الطاهرُ جالساً في مُؤخرة المسجد حين دخل اسماعيل. ولكن بدلاً من الذهاب إلى اسماعيل، التقط الطاهر حِذاءه وتسلَّل خارج المسجد وركض إلى الفندق، حيث اعتقدَ أنه قد يَجد ابنَ القاضي. وفِعلاً وجدَه هناك.
قال الطاهر وهو يلهث: من فضلك يا عَلي. تعال بسرعة!
- ما الأمر؟
- حسناً، الشابُّ الذي قَدَّمني إلى الرجل العجوز وإلى الخياط موجود في المسجد الآن!
- حَقّا؟
(قفز عَلِيٌّ على قدَميه، وَوجْهه متوهج بالسُّرور.)
لكن انتظر لحظة! عَلي! استمع إلي! يُمكنكَ التحدثُ معه عن الشيخ في وقت لاحق. ولكنَّ مشكلتي الآن أكثر إلحاحاً. كما تعلمُ، أنا أخطأتُ في حق هذا الرجل لأنني كنت أسأتُ الأدبَ مع الخياط الذي علمني الخياطة. من فضلكَ تعالَ وتحدثْ معه عن هذا أولاً. أخبِره أنني آسف. من فضلك تحدثْ إليه نيابةً عني. قُل له أيَّ شيء! أريد فقط أن أتحدث معه مرة أخرى.
- وماذا عَنّي أنا؟
- عَلي! أسرِع! دَعنا نذهب قبلَ أن يُغادر المسجد!
بَقِي الطاهر منعزلاً بينما استخدم عَلي قِواه الإِقناعية لإرضاءِ إسماعيل، ولكن حتى بَعدَ المُصالَحة بدا أن إسماعيل لديه الكثير لِيَقوله. كانا يَنظُران إلى البحر من أعلى مَمَر السقالة عندما قال إسماعيل، دون أن يَلتفت إلى الطاهر:
- الجحودُ جريمةٌ ضِدَّ المجتمع بأكمله، لأنه إذا لم تَكُن مُمتنًا فَلَن تَرُدَّ الجميلَ ولن تُسدِيَ معروفاً، وبالتالي قد تَتَحَجَّر قلوب بعض الناس الطيِّبين ومن ثَمَّ قد يُعاني أشخاصٌ آخرون.
قال الطاهر، وهو يُفَكر في شامة:
- أنا آسف. أقولُ لك شيئاً: كِدتُ أفقِد حياتي لولا أن أنقذَتني امرأة. لقد تحدثَتْ عني مع زوجة أمير. (رَفع اسماعيل أذُنَيه بينما استمر الطاهر...) أنا أشعر بالعَجز لِأني لا أعرف كيف يُمكنني رَدُّ الجميل لتلك المرأة. تمنيتُ لَو أجِد لها زوجًا مناسبًا يجعلها سعيدة!
قال عَلي، الذي كان جالِساً غيرَ بعيد عنهما ويُنصِتُ بِبالغ الإهتمام:
- أنا شخصيًا مُستعدٌّ للزواج منها وإسعادها!
قال الطاهر بشيء من التَّعالي:
- أعتقد أنها ستَرفُضُكَ.
- وَلماذا؟
- لأنها امرأةٌ ذاتُ جمالٍ عظيم.
قال اسماعيل:
- أين رأيتَها؟
- يجب أن أحكيَ لك قصة، إذَن.
- حسنًا! أخبِرني قصَّتك! كُلّي آذانٌ صاغية.
بدأ الطاهرُ قصتَه، جالسًا على أحَدِ المَدافع المُوَجَّهة نَحوَ البحر، ولكنَّ اسماعيل طلب منه ومِن عَلي تناولَ الشاي في منزله.
أنهى الطاهر قصتَه في الطريق إلى منزل اسماعيل. قال إسماعيل فجأة:
- صَدِّق أو لا تُصَدق، أنا أعرفُ ذاكَ الأمير!
قال الطاهر مُندَهشًا:
- كيف ذلك؟
- حسنًا، في المَرة الأخيرة أخبرتُك ءأليس كذلك؟ء أنَّني أعملُ مُدرسًا لدى عائلة خارجَ المدينة. رَبُّ هذه العائلة هو شقيقُ الأميرةِ التي قابلتَها في عبْدة، أَرأَيت؟ أنا أعرفها هي و الأمير شخصيًا!
قال الطاهر:
- لا أُصَدِّق!
- ما لا يُصَدَّقُ بالنسبة لي هو أن الأمير لم يَستخدِمكَ كخياطٍ في قصره!
- لأقولَ لك الحقيقةَ، أخي إسماعيل، أتمنى لَو تُساعِدني حتى بعد الذي جَرى.
- ماذا تُريدُ إِذَن؟
- أرجو أن تَرى ما إذا كان الأمير يستطيع إقراضي بعضَ المال لِفَتح مَحَل خياطة في موگادور .
- حسنًا، لا يُمكنني التحدثُ إلى الأميرِ شخصيًا بشأن شيء كهذا. لكنني سأُحاول مع الأميرة، إن شاء الله.
- شكرًا جزيلاً!
قال عَلي:
- وماذا عَني أنا؟
قال إسماعيل رافعًا حاجبَيه:
- أنتَ؟ ماذا تريد أنتَ أيضا؟
- أريدُ شخصًا يَدعو لي.
قال الطاهر مُبتسمًا:
- يَعني شخصًا مثلَ عمي عبد الرحمن.
قال إسماعيل بِتَنهيدة:
- عمي عبد الرحمن مريض.
قال الطاهر، مُبدِيًا تعاطفه:
- مريض؟ هل يُمكننا زِيارَتُه؟
- سنذهب لرزيارته بعد أن نتناولَ الشاي.
لم يَكُن عمي عبد الرحمن مريضًا عندما رأَوه. كان مُدهشاً في لِياقَته. لكنه رفض أن يَدعوَ لِأيِّ كان.
لِلطاهر قال:
- المعرفةُ ليست كالوظيفة. كما رأيتَ، لقد تمكنتَ من العمل كَخياط في غُضون أشهر. لا يمكنك اكتسابُ المعرفة في غُضون أشهر. اسألْ إسماعيلَ، الذي أصبح الآن كاتبًا. لقد استغرقَ الأمرُ سنواتٍ وسنوات قَبْل أن يُصبح مُدَرسًا. وأنتَ لا تزال شابًّا. لديكَ الكثيرُ من الوقت. لديك ما يَكفي من المال. لِذا فإن كلَّ ما تحتاجه هو الذهاب إلى مَدرسة أو مُلازَمَة مُدَرِّسٍ أو قراءة الكتب في المنزل. عليكَ أن تعتمدَ على نفسك، ثم يُمكنك أن تدعوَ الله بنفسك.
وقال لِعَلي:
والدُك أنتَ قاضي، أليس كذلك؟ إنه يَعرفُكَ أفضلَ مني. إذا لم يكن والدُك قادرًا على الدُّعاء من أجلك، فكيف يُمكنني أنا أن أفعل ذلك؟
بَعْد أن سَمِع عَلِيٌّ ذلك، لم يُخفِ امتِعاظَه. قال وهو يَغمِز للطاهر:
- يَبدو أن عمي عبد الرحمن مُتعَب. يجب أن نَدَعَه يستريح.
قال الطاهر وإسماعيل في انسجام، وهما يَشعران بِقلق عَلِي المُفاجئ:
- أنت على حق.
قال الطاهر بَعد خروجِهما من منزل الرجل العجوز:
- ما الذي يُزعِجك إلى هذا الحَد؟ إذا رفَض هذا الرجل أن يدعُوَ لك، فيُمكِننا الذهابُ مباشرة إلى زاوية رگراگة، حيثُ قد تجد بالتأكيدِ رَجلاً صالحًا على استعداد للدُّعاء لك.
- سأَعود إلى المنزل. سأَدْعو لِنفسي بِنفسي!
- حسنًا! غدًا صباحًا سأُعود معك.
عِندها قال إسماعيل وهو يَضع يدَه على كتِف الطاهر: لا تُغادر موگادور قبل أن تَعتذرَ لحْسين.
قال الطاهر:
- بالطبع! لنذهبْ إليه الآن!
قال عَلي:
- أنا آسف، لا أستطيع الذهابَ معكُما.
اعتذرَ الطاهر لحْسين في تلك الليلة وتناولَ العشاء في بَيتِ إسماعيل، وفي الصباح كان عائداً إلى منزله على صَهوَةِ جَوادِه.
بِمُجرد وُصوله ذهب إلى المسجد. سأل الإمام عَمّا إذا كان بإمكانه تعليمَه. قال الإمام وهو ينظر إلى جَيْب الطاهر: أستطيع أن أُعلِّمك ما تُريد أينما تُريد متى تُريد. أجاب الطاهر وهو يُدخِل يدَه في جَيبه: رائع! أُريدكَ أن تُعَلمني هنا والآن كيفيةَ كتابةِ رسالة. قال الإمام وَوَجهُه يَشِعُّ بالبهجة: بكل سرور!
بَعد ظُهرِ اليوم التالي كان الطاهرُ والإمامُ معًا مرة أخرى، جالِسَين في ظِل شجرة بجوار المسجد، عندما سمع الطاهر صوتَ عمي داود الجميل. قال الطاهر وهو يَنهض على قدَميه: انتظِر لحظة! قال الإمام: إلى أين أنتَ ذاهِب؟
- سأتحدَّث مع عمي داود، أقولُ له بِضعَ كلماتٍ وسأعود لإكمالِ الدَّرس.
- دَعْ عمي داود يأتي إليك! لماذا تركضُ إليه؟
لكنَّ الطاهر ركض إلى عمي داود، الذي احتضَنه وتحدث إليه كَأَبٍ حَنون. قال:
- لقد حزِنتُ للغاية عندما علمتُ أنك وقعتَ في قبضةِ ابنِ ذلك القايد. عندما سَأَلني والدُك عنك لم أَتردد في إخباره بالحقيقة. كنتُ مقتنعًا بأنك ستكون في مكان ما بالقرب من آسفي. وكنتُ أسأل دائمًا عنك. كيف حالُك الآن؟ ماذا تفعل؟
- أنا بخير. شكرًا، عمي داود. هل تعلمُ أنّي كنتُ أَتوق لرُؤيتك مرة أخرى.
- وأنا أيضًا! اسمَعْ، عندما تستأنِفُ عملَكَ، سأشتري مِنك أشياء. لأكونَ صادقًا، أفْتقِد الفساتينَ التي كنتَ تصنعها!
- سأَصنع فساتين أخرى، عمي داود. ولكن ليس الآن وليس هنا.
- متى وأيْن، إذن؟
- قريبًا، إن شاء الله. في موگادور.
- في موگادور؟
- نعم، لِمَ لا؟ سيُقرِضني شخصٌ بعضَ المال لفَتح دُكّانٍ في موگادور. هل ستُساعِدني؟
- بالتأكيد! ألا تعلمُ أن مُعظَم خيَّاطي موگادور هم أبناء عمومَتي ويعيشون في المَلّاح؟
- شكرًا لك! الآن أنا آسف لأنني مُضطَر للمغادرة. كما تعلم، بدأ الإمامُ يُعَلِّمني أشياء.
- أوه، رائع! أتمنى لك حظًا سعيدًا لك!
أمضى الطاهر بَقِيَّةَ ذلك اليومِ مع الإمام، وفي الصباح التالي حَبَسَ أنفاسَه بينما كانت والدتُه تَتَّجه نحو ضفة النهر. قالت: أُريد أن أرى هذه الفتاةَ بِعَيني. اختبأ الطاهرُ في بُستانِ زيتونٍ صغير وراقب أتانَ والدتِه وهي تسير بِبُطء على طول ضِفة النهر باتجاه القنطرة. وبَعد ما يَقرُب من ساعةٍ ظهرت الأَتانُ البيضاءُ على الجانبِ الآخر من النهر، قادمَةً شرقًا نحو منزل الزاهية. ثم ذهب الطاهر إلى المسجد، حيثُ كان الإمامُ ينتظره بصبر. بدأ الإمام درسًا آخرَ بينما شَرَعَ الطاهر في انتظارِ عودةِ والدتِه.
عادت والدتُه في وقت مُبَكر من بَعد الظهر، وقالت: أليست حُلمًا من الأحلام؟ لا يمكن إلّا لِرجُل مُباركٍ أن يتزوجها! أدامني الله حتى اليوم الذي أراها فيه في منزِلنا!
قال الطاهر وَوجْهه مُشرِقٌ بالحُبور:
- آمين!
في تلكَ الليلةِ أمضى الطاهِرُ ساعةً كاملةً يَلعبُ على الأوتار في البَرّاكة، ما أَسعدَ أقرانَه. وعزَف لهم في الأيام التالية تحتَ شجرة البَطْم على ضفة النهر. ولَم يُغَنِّ إلا الأغاني التي كان يُغَنيها لزينة، رغم أن زينة كانت مُتزوجة الآن (ورُبما حامِل) وكان زوجُها عْويسة من بين المُستمعين. غيرَ أنَّه وهو يُغَني تلك الأغاني، لم يَكن يُفكِّر إلّا في الزاهية.
جاء عَلِي، ابنُ القاضي، في إحدى الأُمسِيات الجميلة فَوجدَ الطاهرَ يُغَني للأولاد تحت شجرة البَط. فجلس وانتظر، ورأسُه مُنْحَنٍمستغرِقاً في التفكير. وما أن تَفرق الأولاد حتى أخذ الطاهرَ جانباً وقال:
- لقد عُدتُ للتَّو من عبْدة. لقد رأيتُ شامة!
اشتدَّ حَسد الطاهر، لكنه سُرعان ما انفجرَ ضاحكاً وأطلقَ النُّكَتَ حتى لا يَظهر الحسدُ على وجهِه. ولم يَضحكْ عَلي. فقط ابتسمَ ابتسامة خفيفة وانتظرَ حتى نفد ضحك الطاهر، ثم قال:
- أريد أن أذهبَ إلى ذلك الرجل العجوز في موگادور.
- هل تقصد عمي عبد الرحمن؟
- نعم.
- متى ستذهب؟
- الآن.
(ارتجَف الطاهر.)
- هل أنت مُتأكد من أنك ستذهب الآن؟
- نعم.
- لكن الظلام بدأ يُرخي سُدوله. لماذا لا تنتظر حتى صباح الغد؟
- أريد أن أذهب الآن!
- لماذا؟
- لأنني لا أستطيع الانتظار.
- أفهمُ ذلك. هل تُريدني أن أذهب معك؟
- نعم.
في الساعة التالية كان الطاهر وَعَلِيٌّ في طريقهما إلى موگادور. في أول تَوَقُّف لهما، انتابَ الطاهر الخَوف. كان عَلِيٌّ الآن يقولُ أشياءَ غريبة للغاية. تحدثَ عن شامة باعتبارها "زوجتي شامة". وبينما كان يتحدث، كانت ملامِحُه تُثير الرُّعبَ في قلب الطاهر.
وبمجرد وصولِهما إلى موگادور، قال الطاهر:
- ها قد وصَلنا! ماذا تريد الآن، يا عَلِيٌّ ؟
- أريد أن أرى عمي عبد الرحمن.
- الآن؟
- نعم.
- حسنًا، فَقط اسْترِح في الفندق. سَأُحضِر عمي عبد الرحمن إليك، جَيِّد؟
وهكذا تركَ الطاهرُ عليّاً في الفندق وانتقل من مكان إلى آخر حتى وجدَ عمي عبد الرحمن جالسًا في كشك خضروات في السوق. وأوضح لِعَمّي عبد الرحمن أنَّ عَليّاً على وَشك أن يفقِد عقله. قال الطاهر بِيأسٍ، غيرَ مبالٍ بالمارَّة:
- لِوَجه الله تعالى، تعال يا عَمّ وادْعُ له! . أرجوكَ، عمي عبد الرحمن، افعلْ شيئًا، أتوَسل إليك. قُل له بضع كلمات فقط! دَعه يسمعْها من فيك! من فضلك ساعدني في إعادته إلى رُشده!
واستمَر الطاهر في توَسُّله حتى تنهدَّ عمي عبد الرحمن، وقال:
- حسنًا! قُلْ له أن يَذهبَ إلى المسجد ويَحضُرَ جميعَ الصلوات ويقرأَ القرآنَ ليلًا ونهارًا. وعندما يعودُ إسماعيل هذا الخميس سنلتقي جميعًا وسنَدعو جميعا لصديقك.
قفَز الطاهرُ من الفرح وركضَ إلى الفندق لِيُعلِن الخبرَ السارَّ لِعَلي، الذي لَمَعت عيناهُ فجأة.
في الليل، فَكَّر الطاهرُ في شامة أكثر من الزاهية. وفي لحظةٍ وَبَّخَ نفسَه: توَقَّفْ عن القول إنه لا يستحقها! نعم، إنها جميلة. لكنها كانت مُستعدةً للزواج من بلعيد، أليس كذلك؟ هذا ما قاله سْعيد، على أي حال. مَنِ الأفضلُ: عَلي أم بلعيد؟ هذا مُجَرد حَسد آ الطاهر! قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم! ودَعْني أنامُ من فضلك!
وهكذا، ولِمُدةِ ثلاثةِ أيام طويلة، ذهب الطاهر وعَلي إلى المسجد معًا وصَلَّيا معًا وقرأا القرآنَ معًا وعادا إلى الفندق معًا وتناولا الطعام معًا، ولكن في الليل كان كُلٌّ منهما يَختلي بنفسه . مِثلَ عَلي، كان الطاهر في حالة من التوَتُّر والقلق. انتظرَ كلاهما عودةَ إسماعيل يوم الخميس.
عاد إسماعيلُ ودعا الجميعَ إلى العشاء. قال للطاهر عند تَحيته: لَدَيَّ أخبار لك. لكنه لم يقل المزيد، ولم يسأله الطاهر أيَّ شيء. وفي وقت العشاء تناولوا وجْبة بادّاز ودَعَوا جميعاً لِعَلي. ثم طلب إسماعيلُ من الطاهر قضاءَ بَقِيةَ المساء عِنده. وهكذا انتظر الطاهر بفارغ الصبر مُغادَرة الآخرين.
فَبَقِيَ الطاهر وإسماعيل لِوحدِهما. قال الطاهر بتردد:
- ما الأخبار التي أحضرتها لي؟
- اهْدَأ! الأخبارُ هي أن الأميرَ سيكونُ هنا خلال الأيام الثمانية القادمة.
- هل يمكنك إذن مُساعَدتي؟
- حسنًا، قلتُ إنني سأتحدث إلى الأميرة. ألا يكفي هذا؟
- هذا أكثر من كافٍ. شكرًا لك.
-
آ الطاهر، دَعْني أُخبِرْك بشيء. إنَّ أصحابَ التيجان خَطِرون للغاية ولا
يُمكِن الوُثوق بهم، مَهما كانوا طَيِّبي القلب. فَقدْ يَتطلبُ الأمرُ
وِشايَةً واحدةً أو حتى أصغرَ شيء لتحويلهم ضِدَّك. أعلمُ أن هذا الأمير
بالذات رَجلٌ طَيب قَلَّ نظيره. إنه رَجل مُتَدين. وهو مُتواضعٌ تواضُعاً
يَلفت النظر. لكن لا أحد يَعرف. إذا كنتُ تحلمُ بالعمل في قصره إلى الأبد،
فقد حان الأوانُ لكي تتخلى عن هذا الحلم. ولكن إذا طلبَ منك العملَ في قصره
فلا تَقُل لا. لن يَقبل لا كإجابة. فقط قُل نعم واذهبْ للعمل في قصره ثم راقِب لسانَك وغُضَّ بَصَرك واستمِرَّ في الدعاء.
والتضرُّعِ إلى الله ليُخرِجك من القصر بِمجرد أن تَشعر بِتَحَسُّنٍ في حالِك.
وبدأ إسماعيلُ في إخبارِ الطاهر بِقَصصٍ قَرأها في الكُتُبِ عن المُلْكِ و المُلوك؛ أخبَره بقصص تفاصيلُها مُرَوِّعةٌ لدرجةِ أن الطاهرَ بدأ يرتجف. وبدَت تلك القصصُ معقولةً بِحَيثُ جَعلت الطاهرَ يتساءلُ عمّا إذا كان يجب عليه أن ينسى كل شيء عن الأمير ومالِه.
وَعِندَما ذهبَ إلى فرِاشِه في تلك الليلة رأى الطاهرُ كابوسًا تِلو الآخر.
ومع ذلك بَقِي هناك في موگادور حتى أحضرَ له إسماعيلُ الأخبار السارة. قال مُبتسِمًا:
يُريد الأميرُ رؤيتكَ غدًا بعدَ الظُّهر. سيكونُ في إحدى ضَيْعاتِه، على بُعْدِ مَسيرَةِ نِصف يومٍ تقريبًا من هنا. ستذهبُ بِمُفردِك. ستجدُني هناك لأن الرَّجلَ الذي أعملُ لديه سيكونُ هناك أيضًا. لذا كُنْ شُجاعًا واذهبْ وكُن مُحترَمًا! ولا تَكُن ثرثارًا حتى لَو كان لديكَ الكثيرُ لِتقولَه.
ثُم أعطى إسماعيلُ الطاهرَ كلَّ التفاصيل عن الطريق والمكان، ثم قال:
- قبل أن أترُكَك، دَعْني أضيفَ شيئا. لا تُعْطِ جوادَك أيَّ شيء يأكله أو يشربه بعد الظُّهر! انْتبِه لِما أقول! جَوِّعْه حتى تعودَ وإلّا خرَجَ منه يُخزيك!
فَهِم الطاهرُ التلميحَ وابتسم.
وجاءت ظَهيرةُ اليومِ التالي فَوَجَدت الطاهرَ على حافةِ الغابة التي تقع على طولها ضَيعة الأمير. كان على جانِبٍ مِن وسطِ الضيعة الشاسعة منزلُ كبيرٌ مُحاطٌ بأشجار اللوز. كان المنزلُ أكبرَ وأَوسَعَ من أي منزل رآه الطاهر على الإطلاق، وكان عِند المدخلِ الرئيسي للضيعة. ولِلوصولِ إلى المَدخلِ هُناكَ مسارٌ طويلٌ ومُظلِم يَمتدُّ بين حقولٍ مليئةٍ بالأغنام والماعز من جِهةٍ وأخرى مُغطاة بأشجار الزيتون والكروم من الجِهة الأخرى. كان الطاهرُ يَرى مِن حيثُ هُو أسرابَ الحمَامِ تَحومُ حوْل الضيعة. وبذلك زاد يَقينُه مِن أن هذه ضيعة الأمير، لكنه تردَّد قَبلَ أن يَخطُوَ الخُطوة الحاسِمة. وكما حدَث له في دوار بلعيد، لمّا قرَّرَ الهروبَ، أتَته الشجاعةُ للمُضِيِّ قُدُمًا. نَزلَ إلى الطريق ومَشى، وكان حصانُه يَسير خَلفه. وحيثُ توقفَ الطاهر توقفَ الحصان أيضًا. نظَر الطاهر وَراءه لِيرى ما إذا كان الحصان قد أخرج أي فَضلات. اطمَأنَّ الطاهر لَمّا لَم يَرَ شيئا، لكنَّ الحصان صَهل، وفي لَمح البصر ظَهر خادِم وسأل الطاهرَ مَن هو وماذا يفعلُ هنا.
قال الطاهر وهو يَتصبَّب عرَقًا:
- أنا الطاهر بن أحمد الرگراگي. أرسلَ مولايَ الأمير في طَلبي.
قال الخادم!
- حسنًا. انتظِر هنا! سآخُذ حصانَك إلى الإسْطبل.
وهذا ما فَعَله، ترك الطاهرَ واقفا عند المدخل. فَبَقِيَ هناك يُفكِّر الطاهر وهو يسترِقُ النظرَ إلى الحمَام. وقال في نفسِه: لَم أرَ حُرّاسا، ولَم يوقِفْني أحد، هل يوجَد بيتُ أميرٍ بدون حُراس؟ هناك هُدوء وسلام هنا. هذا غريبٌ حقّا!
ولكنْ بَعد لحظةٍ فقط كان هناك الكثيرُ من الضوضاء. عاد الخادِم وانحنى للطاهر. نظر الطاهر إلى أسفل وهو يتبَع الخادمَ عبْر الفناء لكنه كان يشعر بوجودِ العشرات من الرجال بالزَّي الرسمي. ثُمَّ أُخِذَ الطاهِر إلى غُرفةٍ كبيرة جَلسَ في الجزءِ الخَلفي منها الأميرُ وإسماعيل. كان إسماعيلُ جالسا على يمين الأمير، وابتسم عندما رأى الطاهرَ يَدخل ويُقبِّل يدَ الأمير.
قال الأميرُ، مُلِوِّحا له ليَجلس على الكرسي المُقابل لإسماعيل:
- أهلا وسهلاً بك، آ سى الطاهر! كنا في الصلاة عندما وصلتَ. كيف حالُك؟
- أنا بخير، نْعمس. بارك الله في مولاي الأمير.
- كيف وجدَتْ حبيبَتُك الفساتينَ؟
- كانت سعيدةً بهديتِكم السَّخية. شكرًا لكم، نْعمس.
- هل تزوجْتما بعدُ؟
- ليس بعد، نعمس.
- لماذا؟
- أحتاجُ إلى المال، نعمس.
- كَم؟
- أحتاج إلى قَرض، نعمس.
- لماذا؟
- أَوَدُّ أن أفتحَ محل خياطة، نعمس.
- سأرى ماذا أفعل بشأن ذلك.
ثُم التفَتَ الأمير إلى إسماعيل، الذي كان يَبتسمُ ابتساماً يَدخُل القلوبَ بدون استئذان. آه، كَم كان جميلاً! لا، هذا ليس جمالاً! أَلمْ يَكُنِ الطاهر قد رآه من قبلُ ليعرف كيف هو؟ الآن يبدو الأمر كما لو أن الطاهر قد رآه بالفعل لأول مَرة. الآن لم يَعُد يراه مُجردَ رجلٍ وسيم. لم يكن لديه عيون جميلة فحسب، بل كان كل شيء فيه جميلاً. بَدا الأمير وكأنه في عَجلةٍ من أمره لإلقاءِ تلك الكلمات القليلة إلى الطاهر حتى يَتَسنّى له أن يُخَصِّص كل الوقت للتحدث إلى إسماعيل. وبينما كان إسماعيلُ يتحدث، متلأَ الغرفةَ بِعينيه بِقُوة خارقة وكأنه يُلْقي تعويذة على الأمير.
وهاهو الأمير يتحدث إليه باحترام شديد لدرجة أنه لو كانا جالسين في حقل بالخارج وليس في هذه الغرفة، لكان من الصعب التمييزُ بين الأمير وإسماعيل. فَإسماعيل لم يَكن أقل أناقَةً من الأمير. لقد سُحِر الطاهر. فكر في نفسه: هذا هو الرجل الذي يَنبغي أن يكون زوجاً لشامة! أعلمُ أنه لديه زوجته الخاصة. لكن هذا هو الرجل الذي وَدِدتُ لو أراه مع شامة يعيشان معًا كزوجَين، مَلفوفَين تمامًا في بعضهما البعض!
ومع ذلك، لم يَستطع الطاهر، على الرغم من كل جَماله، أن يمنَع نفسه من الشعور بِحسدٍ شديدٍ لدرجة أن أسنانه بدأت تصْطك فجأة. شعر أن وجهه كان وجهَ امرأة، وليس وجهَ رجل. آهٍ لَو كنت هناك لرُؤيَته! كان إسماعيلُ قمرًا مُكتملًا يُحيط به هالة من الأَنوار. كان رجلاً بما كل ما في الكلمة من معنى. لا يمكن أن تكون رصانتُه إلا لِرجلٍ من طينته. كانت كلماتُه تبدو مثلَ تلك التي قرأها الكاتبُ من الكِتاب. وكان صوتُه عذْباً لطيفًا لدرجة أنه قد يُخجِل المُغنِّين ويُلزمهم الصمت. فكَّر الطاهر بِحُزن: مِن المؤَكَّد أن الكُتُبَ هي التي جعلته رجلاً جذابًا! لكن كَم مِن الكُتب التي يجب أن أقرأها قَبل أن أتمكن من التحدث والظهور مثله؟
ولكن بعد ذلك ألقى الأميرُ نظرةً خاطفة على الطاهر، وقال:
- أي نوع من الرجال هو صديقُك الطاهر؟
- إنه شخص لطيف، نعمس، أجاب إسماعيل وهو يَبتلِع ريقَه.
- هل أخبركَ قصَّته؟
- نعم، نعمس.
- ماذا أَخبَرك، على سبيلِ المثال؟
- نعمس، يَبدو وكأنه رجلٌ مُغامِر بعضَ الشيء. إنه رَجل مُجتهد. إنه ناجِح.
- مُجتهد رُبما، ولكن ناجح؟ لا أدري. أنت تَعلم، أنَّ وراءَ كلِّ إنجازٍ بشري تَكمُنُ قُدرَة الله العلي القدير.
- هذا صحيح، يا مولاي.
- ماذا تعرف عنه أيضًا؟
- إنه شخص خَجول، نعمس.
- هل تعتقد ذلك؟ حسنًا، إنه ليس خجولًا كما يَبدو. إنه ليس خجولًا مع النساء على الإطلاق، أستطيع أن أجزم بذلك. الرجال مثله أشخاص خطِرون. احْذَر منهم إذا دخلوا منزلَك. لكنني سأُزيل السُّم منه! ماذا يُمكنك أن تُخبرني عنه أيضًا؟
- حسنًا، نعمس، إنه يَرغب في فتح دُكّانٍ في موگادور ويحتاج إلى قَرض.
- سأُقْرِضُه، لا مُشكلة. لكن قَبل أن أُعطِيه القرض، أُريده أن يُحضِر لي صائغًا من بَلدته.
ذهَبَ تفكيرُ الطاهرِ إلى ابنِ عمه الطْويهْر، لكنَّ قلبَه بدأَ يَنبضُ بسرعة لدرجة أنه بِالكاد استطاع الكلامَ عندما نظر إليه الأمير بثبات وقالَ:
- هل تعرف صائغًا ماهِرا من بين أهل بلدتك؟
فقال الطاهر وهو يَتلعثم:
- نعم، نعمس .
- إذن، ائتِني به وسأُقرضك المال لفتح دُكان في موگادور!
- سآتيكُم به، نعمس.
- وأنا سأبقى هنا حتى تُحضِره إلي. يُمكنك المُغادَرة الآن.
- بارك الله في مولاي الأمير!
قاد إسماعيلُ الطاهرَ إلى الخارِجِ وتَمنى له حظًا سعيدًا.
عاد الطاهرُ إلى القرية، وذهب مباشرةً إلى بيت ابنِ عمه. لم يَجد الطْويهر هناك. فَانتظَره. وأثناءَ الإنتظار الذي طالَ، فَكَّر الطاهر وأَطالَ التفكيرَ: هل يُمكن أن يكون هو أكثر حظًا مني؟ هل سيذهب مُباشرة إلى القصر؟ لِم لا؟ أليس صائغاً جيداً؟ أليس شخصاً محبوباً؟ لكن - هكذا؟ بَين عشية وضُحاها؟ دون أن يَمُرَّ بما مَرَرتُ به أنا مِحَنٍ ومَطَبَّات؟ لابُد أنه محظوظٌ إذن! لا، سأُخبِره! سآخُذُهُ إلى الأمير. ليس لدي خيار آخَر.
جاء الطويهر ووجدَ الطاهرَ ينتظره. قال الطاهر بصوت مَهزوز:
- الطويهر ، جَهِّز نفسَك وتعالَ معي! أميرٌ ينتظرُك. احتفظْ بهذا السر! أسرِعْ!
- هل أنت جادّ؟
- أنا جادٌّ وأَعِي ما أقول. اذهبْ وجَهِّز نفسك ولا تُخبِر أحدًا إلى أين نحن ذاهبان!
- لكن أخبِرني فقط لماذا يُريدُني الأمير!
- الأمير يُريد صائغًا، وأنت صائغ، أليس كذلك؟
- فَهِمت! حسنًا! انتظر لحظة.
وانتظرَ الطاهر بصبر بينما كان الطويهر يُجَهِّز نفسه و حصانَه. ثم انطلقا معًا إلى ضَيعة الأمير.
استقبلهُما الأميرُ بمجرد وصولِهما.
قال الأمير:
- هل أحضرتَ أيَّ عيِّنات من المُجوهرات التي صنعتَها مؤخرًا؟
قال الطويهر بِخجل:
- نعم، نعمس! ها هي، نعمس!
شعر الطاهر بوَخزةِ ألَم في قلبه عندما فحَص الأميرُ المُجوهرات، ثم نظر إلى الطويهر وقال:
- كم ثمن هذه المجوهرات؟
- أنْوي بَيعَها بمائتين وخمسين دينارًا، نعمس.
ثم استدعى الأميرُ خادمًا وقال:
- أَعْطِ هذا الرجلَ خمسَمائة دينار وقُدهُ إلى الخارج. أما أنت آ الطاهر، فيُمكنَك أنت أيضًا الذهاب. شكرًا لك.
ذُهِلَ الطاهِرُ. قادَهُ خادِمٌ هو والطْويهْر خارجَ حضرةِ الأمير. واجهَ الطويهرُ الطاهرَ بِمجرد خروجِهما من ضيعة الأمير. استشْعرَ الطاهرُ شيئًا غريبًا في مَظهَر الطويهر، فتَمتم:
- ماذا ستفعل الآن؟
- تَسألُني؟ هل هذا هو السبب الذي جعلك تأتي بي إلى هنا؟ هل هذا ما وعدتَني به؟
- أنا لَم أعِدكَ بشيء. قلتُ فقط إن الأمير يُريد صائغًا. لم يَكن لدي أي فكرة عما سيحدث بعد ذلك.
- أنتَ تقولُ هذا، أيُّها انَّذْلُ الحقير؟ لماذا لا تقول إنك تعلمُ ولكنك تمنيتَ لو لَم آتِ معك؟ لماذا لا تقول إنك تحسُدني؟ لماذا لا تقول إنك أَناني؟ هل تعتقد أنك تستطيع إخفاء حسَدِك؟ أستطيع أن أرى ذلك على وجهك! اسمع، لقد لقد انكَشَف لي أمركَ أيها الشيطان! لا تقْرَبني مَرة أخرى أبدًا، أبدًا، أبدًا! الوداع!
أمضى الطاهرُ تلك الليلةَ في البَرِية. في الصباح التالي كان يأكلُ كعكةً كبيرة في غرفة الطعام بالفندق. كان حزينًا، لكنَّ رَجُلين يجلسان بجانبه كانا سعيدين. قال أحدهما، وهو يَغرِس أسنانَه في شريحة لحم:
- قلت إنك محظوظ..
أجاب الآخر، وهو يَحسي الشاي:
- وأنت أيضًا!
- لكنَّ زوجتَك لديها وجهٌ جميل.
- هذا لا جِدالَ فيه، لكن زوجتك أنت لديها ساقان مَليحان، أليس كذلك؟
- نعم، لكنني أُفَضلُ أن تكون لي زوجة ذاتُ وجه جميل على أن تكون لي زوجة ذات ساقين جيدتين.
- حسنًا! لِنَلْتقِ جميعًا عند الجزار الليلةَ!
- ولِمَ؟
- حسنًا، سَيَقطع الجَزارُ وجهَ زوجتي ويُعطيه لك وسيقطع ساقَيْ زوجتِك ويُعطيهما لي!
لَم يستطع الطاهر أن يَمنع نفسه من الضحك، لكن هذا لم يكن كافيًا لإسعاده. ذهب إلى غرفته وعَزَفَ على أوتاره، لكنه زاد حُزنًا. ذهب إلى المسجد عند الظهر وقرأ القرآن، لكن هذا لَم يُغْنِه أيضًا. فَفَكر وهو عائدٌ إلى غرفته في الفندق: ما الذي أفعلُه هنا؟
ومع ذلك فقد بَقِي في موگادور حتى جاء إسماعيل بعد ثلاثة أيام ودَعاه إلى العشاء. فَقال إسماعيل: الله أعلم. لا أعتقد أن أحدًا يَعرِف. كل ما أعرفه هو أن الأمير انتقل الآن إلى الجنوب من موگادور. ليس لدي أي فكرة عن موعد عودته. لكن كُلْ! الدار دارُك!
- بصراحة، أنا من المُغرَمين بالثريد. لا أستطيع مقاومة رائحة البصل والحلبة والعدس. كنتُ سَأتناول هذه الوجبة حتى في حضور الأمير. لكنني الآن لا أُطيقُ تَذَوقها. شَهِيتي مُغلَقة. يُؤسفني أن أقول ذلك. لقد خَفق قلبي عند رؤية هذه المِزهرية. فأنا أحب الزهور مثل هذه. لكنني الآن ليس لدي شهية. سأتناول الطعام فقط لإرضائك.
قال إسماعيل وهو يَمْضغ: أنا لن ألومَك آ الطاهر. (ثُم توقف عن الأكل وقال:) الشدائدُ، كَيفَما كانت، صعبةٌ وثقيلة. بالنسبة لي، الصبرُ لُغز. لقد قرأت كتبًا وفكرتُ لسنوات وسنوات وما زِلت حائراً بشأن هذا الشيء الذي نُسَميه الصبر. لماذا يَتحمل امْرُءٌ مَرارةَ الألمَ بينما شخصٌ آخر قد تَنفجِر عروقُه لِأبسطِ شيء؟ لماذا يَجب على المرء أن يكون صبورًا في المقام الأول؟ هل لأنه يُريد الحصول على خَيرٍ ما في هذه الحياة الدنيا أو في الآخرة أو في كِلتَيهما؟ أم لأنه يريد فقط أن يَعيشَ عيشة عادية؟ شخصيًا، كنتُ صبورًا في أوقات أصعب مما يُمكنك تخَيُّله. ولكن أحياناً كانت هناك أوقات سقطت فيها في هاوية اليَأس، مِثلك الآن. (بدأَ الطاهر فجأةً يَأكل بما يُشبِه الشراهة بينما استمر إسماعيل في الحديث مِثل مُدرس في المدرسة:) الإنسان ضعيف. لأكون صادقًا معك، كُلما أدركتُ ذلك، وجدتُ نفسي أكثرَ مُيولاً للعُنف. أنا لست شخصًا عنيفًا بطبعي، لكنني لا أستطيع تَحَمل الاستفزاز. يُمكنني تَحَدّي أي شخص، لكنني لا أُحب التباهي بذلك. أنا أكره التظاهر والتمثيل على الناس. لا أريد أن أَتفاخر بأي شيء. لكن ليس من السهل أن تكون متواضعًا. سأُخبرك بشيء. بينما نتحدث، هناك شخص أو آخر في مكان ما أو آخر يُصَلي لله في مسجد أو في كنيس أو في كنيسة أو في مَنزله. أشخاص مُختلفون يَعبدون نفس الإله بلغات مختلفة. كُلما أدركتُ ذلك، أشعرُ بمدى صِغري. أشعر أنه مَهما كنتُ جميلًا، ومهما كانت قُوتي، ومهما كانت مَوهبتي، فسأظل شخصًا واحدًا فقط؛ وهذا يعني أنني سَأظل بحاجة إلى الآخرين. لا أستطيع العيشَ بدونك تمامًا كما لا يمكنك العيش بِدوني. نحن بحاجة إلى مَحَبَّةِ بعضنا البعض، أعني الحب الأخوي. نحن بحاجة إلى مساعدة بعضنا البعض. نحن بحاجة إلى احترام بعضنا البعض. وإذا فقدنا أعصابنا ودخلنا في مُشاجرة فلا ينبغي لنا أن نذهب إلى حَد قَتل بعضنا البعض. أقولُ لك هذا لأنني مَررت بما تَمُرُّ به أنت الآن. أشعر أن رأسك مُكْتظ بالأحلام الكبيرة، وإذا - لا قدَّر الله! - وقف أيُّ شخص في طريقك يُمكنكَ أن تذهب إلى حَدِّ التفكير في قتلِه!
- أنا؟
- نعم، أنت!
غادر الطاهرُ منزلَ إسماعيل وهو في غاية الإنتعاش. ابتسمَ بينما داعب نسيمُ الليل خَدَّيْه. تَخيَّلَ عينَيْ الزاهية الزرقاوين. تمنى لو كانت معه هناك، يَتجوَّلان، يَداً في يَد، يَنتقلان من زُقاق إلى زقاق، يَشُمّان العرعار، وَيَتسكَّعان حَول ورْشات الخشب المُغْلَقة، ويَتستنشقان الرَّذاذ المالح الآتي من البحر المُظلِم، والرَّوائح الغريبة للأسماك غير المرئية المُنبَعِثة من الميناء الغارِق في النوم.
لكن عندما عاد إلى غرفته في الفندق وجد نفسه وحيدًا مرة أخرى، لا أنيسَ له إلا آلة الأوتار. التقطه وعَزَفَ لِنفسه حتى توَسَّل إليه رجل عجوز من الغرفة المُجاوِرة أن يَدَعَه ينام بسلام.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire