محمد علي لكوادر المحمدية، المملكة المغربية

محمد علي لكوادر المحمدية، المملكة المغربية

dimanche 29 septembre 2024

الفصل السادس


النسخة   الإنجليزية


THE TAILOR OF MOGADOR


 


الفصل السادس
 
 
ثم أَخذ الخَدمُ الطاهرَ إلى غرفةٍ كبيرة بِها سريرٌ وقالوا له إنهم سيعودون وقتَ الغداء. جلس الطاهر على السرير ونظر إلى الثُّرَيا المعلقة من السقف الجصِّي. سُرعان ما عاد بأفكاره إلى مسجد الكتبية. قال وهو يتنهد: لَم أُصَلِّ منذ أيام. ثم نَظر إلى البَلاطِ الأزرق الذي جَعل الجُدرانَ تبدو وكأنها أربعُ مفروشات جميلة وطار عقلُه إلى موگادور. فَكَّر بصوتٍ يَسمعُه: هل سأحصُلُ في بضعةِ أشهر على ما حصَل عليه إسماعيلُ في أكثرَ من عشرِ سنوات؟ نظر إلى السَّجادة الحمراء تحت قدَميه وإلى المِزهرية بجانب السرير، ثم طار عقلُه إلى الوادي، ثم إلى الزاهية. فكَّر بِفخر: ماذا ستقول الزاهية إذا عرفت أنني هنا؟ هل ستعرف زينة؟ ومَّيْنَة؟ وشامة؟ لَن أنسى شامة. اعتقدتُ أنها خذَلتني، لكن لا، لقد أوفَت بوعدِها. لكن أنتَ، هل وفيتَ بوعدك؟ ألَم يَقل القاضي علال إنك يجب أن تظلَّ وفِياً للزاهية؟ ماذا تُسَمي ما فعلتَه مع مَّيْنَة؟ هل هذا وفاء؟ كيف ستشعُر أنت لَو وضَع أي من هذَين الرجُلين اللذَين رأيتَهما مع الزاهية يدَه على فخذِها أو على شفتَيها؟ يا رَب اغفر لي! يا رب ساعدني على التَّوبَة!...
وقعت عَينا الطاهر على مسبحة مُعلقة على مسمار. اندفع إلى الأمام وفَكَّها. وبَقِي يُسَبِّحُ ويَستغفِر في طُمأنينة حتى سمع طَرقاً على الباب. ثم أَخفى المسبحةَ تحت الوِسادة وقَفز من السرير. فتح الباب. أَحضرَ خادِمان طاوِلة مُكدَّسة بالأطباق وغادرا.
جلس الطاهر مُتَربِّعاً بالقرب من الطاولة التي وضعها الخدَم في منتصف الغرفة. كان الطاهر، الذي اعتاد على وَجبات من طَبق واحد، في حالة من الارتباك الآن حيث واجه طاوِلةً عليها ما لا يَقِل عن سبعة أطباق مختلفة، بعضُها ساخن للغاية وبعضها بارد. فَكَّر مُبتسماً: بماذا أبدأ؟ ولكن عندما بدأ يأكل، ولاحظ أن جميعَ الأطباق وأدوات المائدة مصنوعة إما من الفضة أو من الزجاج عالي الجودة، شعر بِألمٍ حارِقٍ في قلبه. لم يكن سُمًّا أو أيَّ شيء من هذا القبيل، بَل مُجَرد شعور. شعر أنه لا يَستحق كل هذا. فكَّر وعيناه تَدمعان: ماذا فعلتُ لأستحق كل هذه الرعاية وكلَّ هذه الحَفاوة؟ هل هذه حَسنَةٌ تَتبعها سيِّئة؟ يا إلهي قد يكون الأمرُ كذلكَ! يجبُ أن أستأنفَ صلاتي اليوم. سأطلبُ منهم السماح لي بالذهاب والصلاة في المسجد. يجب أن أكون صالِحا إذا أردتُ أن يكون الله رحيماً معي. يا إلهي ساعدني! ...
مَسح الطاهر عينَيه وهدأ قلبُه. و أكل بِلذة. عندما انتهى من الأكل جَلس على السرير وانفجرَ بِالغناء. بصوتٍ خافتٍ غَنى الأغاني التي غناها للزاهية، هناك تحت شجرة النخيل على ضفة النهر، بينما كانت الزاهية تَجلس على الجانب الآخر وتستمع بهدوء.

وبَعد ساعة عاد الخدَم لتنظيف الطاولة. وبينما خرجوا من الغرفة دخل رجلٌ في الأربعينيات من عُمره يَحمل عددًا من الكتب تحت ذراعه، وقال: أنا كاتب الأمير. جَعل الكاتِب الطاهر يجلس أمامه وشرح له كيف سيعملان معًا. قال الكاتب: ستكونُ بِمقامةِ المُعلم الذي يُلقي الدرس وسأُدَوِّنُ كُلَّ ما تقوله، ثم سأُعيد كتابةَ نُسختِك وأقرأها لك حتى تتمكن من إضافة أي شيء رُبما نسيتَ ذِكره في نسختك الأولى، واضح؟ لكن دَعني أُعطيك مثالاً على نوع القصة التي يُريدها الأمير. الأمير يريد قصة مثل إحدى هذه القصص في هذا الكتاب، والذي يُسَمى "ألف ليلة وليلة". هذه كتبٌ مُشابهة: هذا يسمى "الهلالية" وهذا "العنترية".
استمعَ الطاهر في دهشة بينما بدأ الكاتب قِراءةَ حكايةٍ من "ألف ليلة وليلة". في تلك اللحظة شعر بشيء لم يشعر به من قبل، حتى عندما رأى زينة أو الزاهية أو حتى شامة لأول مرة! لقد وقع في حُب القصة بكُل بساطة، لكن هذا كان حُبًّا مختلفًا - حُبًّا لَم يَترك دمعة في القلب، حُبًّا لم يَجلب أي هموم إلى العقل. كان حُبًّا جميلًا. كان حُبًّا مُسالمًا. بينما كان الكاتب يقرأ القصة، كان عقلُ الطاهر يتجول حَوالي مراكش وموگادور وما بينَهما.
قال الكاتبُ فجأة وهو ينظر برفق إلى الطاهر: هذا هو نوع القصة التي سيكون الأمير سعيدًا بها.
رَدَّ الطاهرُ بابتسامة جذابة: إنها قصة جيدة حقًا. أنا أَحسُدك! من المُؤسف أنني بِالكاد أستطيع القراءة والكتابة. لكنني سأفعل بالتأكيد كُلَّ ما بوسعي لِتَعلُّم كَيفية قراءة كتاب مثل هذا!
- الآن بعدَ أن قابلتَ الأميرَ، سيكون لديك بالتأكيد ما يكفي من المال لفعل ما يَحلو لك. سيبقى الأمر مُجرد مسألة إرادة.
- لَدَي الإرادة! أَتَعَهَّد بأن أفعَل كل ما بوسعي لِتَعلُّم كُل ما يمكن لرجل في مثل عمري أن يتعلمه.
- حسنًا! ولكن دَعنا نبدأ الآن! أخبِرني قصتَك.
- ماذا لَو طلبتَ من الناس هُنا أن يَمنحوني فُرصَة زيارةٍ حول المدينة بعد الظهر؟ مثلُ هذه الزيارة ستساعدني بالتأكيد في سَرد ​​القصة بأفضل طريقة مُمكنة.
- لا أستطيع أن أَعِدك بشيء. ولكن سأرى ما يجب فعله حُيال ذلك.
غَاب الكاتِب لفترة، ثم عاد لِيُخبر الطاهر أنه بإمكانهما الخروج لِرؤية المدينة.
سَأل الكاتبُ، وهو يَقودُ الطاهرَ خارجَ منزلِ الأمير:
- ماذا تريد أن ترى؟
قال للطاهر بِخجل:
- حسنًا، لقد وُلِدتُ في قرية بالقرب من وادي تانسيفت. لَم أَكن قد زُرت أي مدينة حتى أشهر مَضت. رأيتُ مراكش فقط ثم موگادور.
- حسنًا، آسفي ليست مختلفةً كثيرًا. إنها تشبه موگادور تمامًا. إنها مدينة مُسَوَّرة، وتُطِل على البحر. انظر، نحن هنا في الشارع الرئيسي. يَمتد من هنا إلى باب الشعبة. نسميه زنقة السوق. هذه هي الأسواق الرئيسية. هذا هو الجِدار الشمالي للمدينة. هذا هو باب الشعبة، إنه البوابة الرئيسية، كما تَرى. وهنا حَي الخزافين.
- أين المسجد؟
- إنه هناك، مباشرة قُبالة الشارع.
- أريد أن أُصَلي هناك.
- حسنًا. سنذهب إلى هناك عندما نسمع المُؤذن. الآن دعنا نَنتقل مِن هنا.
 
أخذ الكاتبُ الطاهرَ في جولة حول أجزاء أخرى من المدينة. أراهُ أنقاضَ الكنيسة، التي قال الكاتب إنها بناها البرتغاليون، الذين، حَسبَ قَولِ الكاتب، لَم يتمكنوا من البقاء في المدينة أكثر من ثلاثة وثلاثين عامًا. لطاهر، الذي لم يَسمعْ قطُّ بِالبُرتغاليِّين، تساءلَ في نفسهِ عن ماهِيتهم وماذا كانوا يفعلون هنا. كما أخبرهُ الكاتبُ عن القَشلة، التي قال إنها بناها السعدِيُّون. سأل الطاهر بخجل: مَن هم هؤلاء السعديون؟ قال الكاتب، مُدرِكًا حرَج الطاهر: كانوا مُلوكًا حَكموا المغربَ في الماضي. انظُر إلى تلك الأبراج والأسقُف المَكسوَة بالقرميد الأخضر! يوجد رياضٌ هناك، يُدعى رياض الباهية. الآن سننتقِل خارج المدينة. سأُريك مكانًا آخر، خارج هذه الأسوار مباشَرة.
 
كان ذلك المكان الآخر هو قَصرُ البحر، الذي قال الكاتب إنه بَناه المغاربة، وليس البرتغاليون. ومن هناك كان بِوُسعِ الطاهر أن يستمتع بمنظر رائع لِلبحر، يُذَكره بالسقالة في موگادور، ثم الفندق، ثم شجرة النخيل على ضفة النهر، حيث اعتاد أن يَجلس ويلعبَ على أوتاره وينتظر ظهور الزاهية. آهٍ، كَم تَمَنَّيتُ لَو كانت معي! فَكَّر الطاهر وهو يَتنهد، بينما استمرَّ الكاتبُ في لَفْتِ انتباهِه إلى كل ما يُمكن رؤيته من هناك. سألَ الكاتبُ فجأةً: هل تعرفُ لماذا بُنِيَت هذه الجدران المُحَصَّنة؟ قال الطاهر بخجل: لا. فَقال الكاتب بلُطف: سأُخبِرك لماذا. لقد بُنِيَت هذه الجدران لمَنع المَسيحيين من دُخول البلاد.. فَرَدَّ الطاهر، وهو يشعر بِضآلة معارفِه: فَهِمتُ. شُكراً . لقد رأَيتُ ما يكفي. لِنَرجِع الآن!
 
وعادا إلى المدينة، من حيثُ جاءتْ نَفسُ أصوات الناس والحَمير وهُم يَتجولون في حَي الفخاريين أو يَختفون في المَتاهات المُحيطة، في الأزِقة الضَّيقة. كانت نفس الروائح مرة أخرى، نفس الألوان. كان الجديد هذه المرة قطعة موسيقية لَم يسمعْها الطاهر من قَبل. كانت الموسيقى مُنبَعِثةً من منزل أبيض بنوافذ زرقاء. سأل الطاهر بنفس الصوت الخجول: ما هذا؟
ضحك الكاتب وقال:
- هذه موسيقانا! نُسمِّيها العَيْطة. دعني أُخبِرك بشيء - الأمير مُغرَم بهذا النوع من الموسيقى!
- فهمت! لقد سمعتُ عن العَيطة، لكن هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها الموسيقى. ماذا يقولون في أغانيهم؟
- حسنًا، إنهم يُغَنُّون عن الحُب، هذا النوع من الأشياء.
- أَظُنُّهُ المؤذن.
- نعم. لِنذهب إلى المسجد.
تَوَضَّأ الطاهر وأَسرعَ ليأخذ مُصحَفاً من رَفٍّ صغير بالقُرب من المنبر. لكنه لم يقرأ إلا القليل حتى نهض الإمام ليُصَلّيَ بالناس.
وبمجرد خروجه من المسجد، قال الطاهر لمُرشدِه
هل يُمكنك أن تُعيرَني ​​مصحفا أثناءَ مُقامي في دار الأمير؟
بالطبع! لكن الآن انسَ كل هذا! الآن هو الوقت المناسب لتحكِيَ لي قصتك!
عند عودتهما إلى منزل الأمير، اقتربت خادمة من الطاهر وقالت:
- هل يُمكنك أن تُخبرني بِعُمر امرأتِك وبِقِياساتها؟
- تَقصِدين المرأة التي في بلدتي؟
- نعم.
- حسنًا، إنها بَين الثامنة عشرة والعشرين من عمرها. إنها ليست بالقصيرة ولا بالطويلة. إنها ليست بالنَّحيفة ولا بالسمينة. أَهذا يكفي؟
- نعم، أستطيع الآن أن أتخيلها.

في نفس اللحظة، لَوَّح الكاتبُ لخادِمه لِيُحضرَ لَهما الشاي.

 

وهكذا تَقابلَ الطاهرُ والكاتبُ في تلك الغرفة الفاخرة وتحدَّثا أثناءَ تناوُل الشاي. روى الطاهر قصته بينما كان الكاتب يُدَوِّنها. لكن الطاهر لم يستطع أن يمنعَ نفسَه من الانحراف عن الموضوع من حين لآخر. بَدا الكاتبُ مُتسامحًا مع ذلك. حتى إنه استجاب بِلطف لتعليقاتِ الطاهر وأسئلته، وكان يَحْتسي الشاي بعد كل إجابة. علَّق الطاهر على الشاي نفسه، حيث قال إنه كان مختلفًا بعض الشيء عن الشاي الذي اعتاد شُربَه في المنزل. و علَّق على الِمحبَرة، وعلى الريشة، وعلى الورقة الصفراء (التي كان الكاتِب يَكتب عليها)، وعلى الثُّرَيا المُعَلَّقة فوق رأسه، وعلى حَي الفخَّاريين... فجاءت لحظة قال فيها الكاتب: أنا أُحب الناس الفُضوليين، لكن الفضولَ ليس مَحمودًا دائمًا. عندها فقط توقف الطاهر عن الكلام الزائد.
 
أدَّى الكاتبُ و الطاهر صلاتَي المَغرب والعِشاء معًا، وتناولا العَشاءَ معًا، وقرأا القرآن معًا واستأنفا سردَ القصص على ضوء الشموع حتى قال الطاهر: أنا آسف، أشعر بالتعب الآن. ثم التقط الكاتب أدوات الكتابة وغادر دون أن يرفع حاجبه.
ولكن حتى عندما أطفأ القنديل وسَقط على السرير مُنهَكاً لم يستطع النوم. فَكَّر لبعض الوقت في عالم الكُتب. وفَكر في الكيفية التي قد يصبح بها يوماً ما مُثَقَّفاً مِثل الكاتب، وحكيماً مثل القاضي عَلال، وذَكياً مثل إسماعيل. وسافرت به أفكارُه إلى مراكش وموگادور والكريمات، ثم استَقَرَّت على قرية الزاهية.
 
وفكَّر بينه وبين نفسه: لِمَ لا؟ لماذا لا أستطيع أن أمتلكَ بيتاً جميلاً مثل بيت إسماعيل؟ يستطيع الأمير أن يمنحَني أو على الأقل يُقرِضني بعضَ المال لفَتح دُكَّانٍ في موگادور، ومن ثَمَّ أستطيع أن أجمَع ما يكفي من المال لشراء أو بناء منزل جميلٍ أو اثنين، ثم رُبما أشتري عشرين خَدَّاماً أو أكثرَ من الأرض الخصبة، ومِن ثَمَّ أستطيع تَشغيلَ العديد من شباب القرية في حَرثِ أراضِيَ ورَعي ماشِيتي. بل ويُمكنني أن أتزوج امرأة أو اثنتين إلى جانب الزاهية. لماذا لا أتزوج شامة؟
 
انتهى الكاتب من قصة الطاهر وقرأ أجزاء منها للأمير بحضور مجموعة مختارة من الرجال، من بينهم الطاهر نفسه.
قال الأمير وهو يَنظر بلطف إلى الطاهر: قصتك مُمتعة للغاية. آمُل أن تكون مكافأتي ممتعة أيضًا!
أجاب الطاهر بصوت مُرتجِف: حفظ الله الأمير!
كانت مكافأةُ الأميرِ مَبلغًا صغيرًا من المال وما لا يقِل عن سبعة فساتين وقِلادَتين وبُرنُساً. عاد الطاهر إلى تلك الغرفة الفخمة وانهمرت الدموع على خدَّيه عندما رأى الفساتين واحدًا تلو الآخر. ، فَكَّر بأس: لا بُدَّ أن تكون الزاهية امرأة مُبارَكة حقًا. سأكون مُبارَكًا أنا أيضا إذا تزوجتُها. الشيطان فقط هو الذي يَجعلني أُفكِّر في الزواج من امرأة ثانية. لكن هل لا تزال الزاهية تُفكِّر بي؟
في صباح اليوم التالي، كان الطاهرُ عائدًا إلى منزل والده بِرُفقة أفرادٍ من حَرَسِ الأمير. وعند وصوله، سقط في أحضان والدته ثم خرجت القرية بأكملها للترحيب به وتهنئتِه على العَودة. نصَب والدُه خيمتَين كبيرتَين للضيوف، وذبَح لهم بقرة كبيرة، وقدَّم لهم أفضل الولائِم.
 
وكان من بَين الحاضرين شبابُ القرية، فانضم إليهم الطاهر ومازَحَهم، ثُم قال أحدهم:
- عْويسة يستمتع الآن بِزينة ، إنه لأمر مؤسف، أليس كذلك؟
أجاب الطاهرُ وهو يَبتلع ريقَه، وينظرُ بعيدًا:
- المظهرُ ليس كلَّ شيء.
ثُم شعر الطاهر وكأن شيئًا ما سيُفَجِّر صدرَه، شعر به يدفعُه للخارج. صَمَد لحظةً أمامَ تلك الرغبة العارمة في الخروج ثم بعد ذلك يرى ما يَفعله. لكنه نهض، وبعد أن نَظر يمينًا ويسارًا مِثل قروِي ضائعٍ في بلدةٍ غريبة، خرج من الخيمة. دخل منزلَ والده وغيَّر ملابسَه وأحضر أوتاره وأخذه خِلسةً إلى الحديقة الخَلفية ووضعه على الحائط الخلفي. ثم غادر المنزل من الباب الأمامي وشَق طريقَه نحو المكان الذي وضع فيه الأوتار. ثم نظر في كل اتجاه والتقط الأوتار وتسلَّل نحو ضفة النهر. جلس تحت شجرة النخيل وضَبَطَ أوتاره ثم بدأ يَعزف عليه. وبينما كان يعزف فكَّر بينه و بين نفسه: أنا أُحبِّها، ولدَيَّ كُلُّ الحق في رؤيتها، أليس كذلك؟ لا يهمني إذا ترك هؤلاءِ الخيامَ وجاءوا إليَّ. ولكن ما هي إلا لحظات حتى خَرجت الزاهية راكضة. وقفت هناك، تُراقب بدهشة. أسقطَ الطاهرُ الأوتار وخلَع الجلباب وشَدَّ حِزامه، ثم انزلق إلى أسفل المنحدر، وقفز في الماء وسبَح إلى الجانب الآخر. ظلت الزاهية ساكنةً حتى وقف الطاهر أمامها. نظرت إليه بِحَنين وهو يُجَفِّفُ وجهَه.
قالت:
- أين كُنتَ طيلةَ هذا الوقت؟
أجاب الطاهر مُبتسمًا:
- كنتُ بَعيداً، بعيداً جدًا!
- ماذا كنتَ تفعلُ هناك؟
- كنتُ أُطهِّر قلبي وعقلي من زينة!
احمَرَّ وجهُ الزاهية. قالت وهي تشير إلى جذع شجرة ساقطة: لِنَجلسْ! وبينما جَلسا هناك، قال الطاهر:
- أُخبِرُكِ بشيء - لقد قابلتُ أميرًا!
- أمير؟
- نعم! وقد أرسل لكِ هذا الأميرُ هديةً.
- أين هي؟
- سأُسَلِّمُها لك عندما نأتي أنا والقاضي إلى منزل أبيكِ.
- ما زلتَ لَمْ تُخبِرْني أين كنتَ؟
- حسنًا، كنتُ في عَبْدة. عمِلتُ مع ابن أحد القُيَّاد هناك. ثم قابلتُ أميرًا.
- وماذا ستفعل الآن؟
 
- أعتقد أنني سأعود إلى موگادور و سأُحاول أن أفتح محلاً للخياطة هناك. وعندما أتزوَّجُكِ، سأعلمكِ التطريز حتى نتمكَّن من العمل معًا والحُلم معًا.
- هل تريد الزواج بي حقًا؟
- بالطبع!
- إِذَن أَعطِني عهدًا كَما أعطيتُكَ عهدًا!
- أعدُكِ بذلك. لا تَقلقي!
فقالت الزاهية وهي تنهض على قدَمَيها:
- الآن، ، يجب أن أذهب. أراك قريبًا، إن شاء الله.

لَم يَنطقِ الطاهر بكلمة. فقط بَقي ينظرُ إلى الزاهية وهي تبتعد. ثم أدرك أن بعضَ الناس كانوا يُراقبونه من بعيد. خفَق قلبه بشدة. ثم فكَّر وهو يَهز كتفَيه: لماذا يجب أن أَهتم؟ سأكون أنا والقاضي في منزلِ والدِها غدًا أو بَعد غد إن شاء الله. المشكلة الآن مع هؤلاء الأشخاص الذين تركتهم في المنزل. ماذا سيَظنون إذا رأَوني في مثل هذه الحالة؟ أوه! انظر إلى هَيأتك! لا تهتم! فقط انهض واذهبْ مباشرةً إلى المنزل ودعهم يقولون ما بدا لهم!

كان بعضُ هؤلاء الناس ينتظرونه على الجانب الآخر من النهر. سألوا وهم يَرفعون حواجِبهم: أين كنتَ؟ ماذا كنتَ تفعلُ هناك؟ لكن الطاهر ابتسمَ ابتسامة تِلو أخرى وهو يَتحركُ لالتقاطِ جلبابه. علَّقه على كَتفِه. ثم أخذَ أوتاره وضَمَّه إليه وبدأ يَعزف عليه. عزَف لحنًا يَعرفه بعض من حوْله عن ظَهر قلب. انفجروا جميعًا بالغناء؛ غنَّوا أغنيةً كان الطاهر يُغَنيها لزينة. واستمروا في الغناء والتصفيق بأيديهم وهم يَسيرون نحو الخيام. وهَبَّ جميعُ من كان بتلك الخيام وتجمعوا حَول الطاهر بينما استمرَّ هو في العزف على أوتاره و شباب القرية يُغَنون ويصفقون بأيديهم.

في المساء التالي كان الطاهر في الكريمات، قريةِ القاضي.

 

قال القاضي بِابتسامةٍ عريضة: أنا سعيدٌ لأنك عُدتَ سالمًا. لكن تعال وأخبِرني بما حدَث.
شعر الطاهر بِقُشعْريرة عندما دخل منزلَ القاضي، وهو إحساسٌ لم يشعر بها حتى عندما دخل منزل الأمير في آسفي. لقد شعر بسلام لم يشعر به إلا في المسجد.
وهناك أخبرَ الطاهرُ القاضي بما حدث له. وعندما انتهى من الكلام، قال القاضي بصوته اللطيف المعتاد:
- ألم أقل لك إن الزاهية ستكون أفضل لك بِكثير؟ الآن لديك حِرفَة جديدة. وأنت تعرف أميرًا قد يساعدك على الاستفادة الجيدة من مهاراتك وبالتالي تحسين وضعك. وفوق ذلك لَديك فتاة تُفكر فيكَ أنتَ وحدك. لكنني ما زلتُ خائفًا عليك. أخشى أن تُصبح مغرورًا بنفسك. أخشى أن تنسى كل شيء عن الله.
- لماذا تقول ذلك، سيدي القاضي؟
- اسمع يا بُنَي. سأُخبرك بشيء. لَطالما كنتُ قلقًا بشأن ما يَفعله شبابُ قريتك. أَعلم أنكم تفعلون ذلك تحت أَعيُن أمَّهاتكم. أعلم أنكم تتحدثون لا غَيْر. أعلم أنكم تَلتقون هناك لأنَّكم تُحبون بعضَكم البعض. أنا لستُ ضد الحب. بل على العكس من ذلك! والإسلام ليس ضد الحب. لكنني أخشى أن يغضب الله عما تفعلونه. أنتم مَعشَر الشباب تستثْقِلون الوعظ ولكن دعني أقول لك:

من المُرَجَّح جدًا أن يُعاقِبك الله في كل مرة ترتكب فيها خطيئة. قد لا يكون العقاب فَوريًا. لكن هذا لا يعني أنه لن يأتي. والأمرُ الجيد في هذا هو أن العقاب قد يكون علامةً جيدة في بعض الأحيان. وغالبًا ما يُعاقَب المسلمُ الصالحُ بعد وقتٍ قصير من ارتكابه للخطيئة حتى يُغْفَرَ له ذلك الذنبُ يومَ القيامة ثم يذهبَ مباشرةً إلى الجنة. لِذا عندما صُدِمتَ بسبب حُكْمي في ذلك اليوم المَشهود، شعرتُ أنكَ تحمل قلبًا مؤمنًا في صَدرك. لأكونَ صادقًا، لقد رأيتُ في صدمتكَ نوعًا من العِقاب الفوري من الله لِأي خطأ رُبما تكونُ قد ارتكبتَه قَبل ذلك الوقت، مَعَ العلم أنه، كما قلتُ، يُمكن أن يَمنحك الله عِوَضاً بعد ذلك. ولكن عليك أوَّلاً أن تخاف الله وأن تتحلَّى بالصبر ولا تيأس أبدًا من رحمة الله. كما تعلم، فإن خوفَ الله هو أضمنُ طريقٍ للنجاح في كلتا الحياتين، إذا كنت تريدُ أن تكون سعيدًا في كلتا الحياتَين.

بدا أن القاضيَ لديه الكثيرُ ليقولَه رغم أن الطاهر لم يَكن مستعدًّا للوعظ، لكن ابنَ القاضي دَخَل وهو يَحمل طاجيناً في كلتا يديه.
قال ابن القاضي وهو يَجلس إلى المائدة:
- أهلاً بك آ الطاهر!
رَدَّ الطاهر بِخجل:
- بارَك الله فيك!
قال ابنُ القاضي وهو يَغمس فُتاتَ الخُبز في صلصة الطاجين:
- تبدو أفضلَ بكثيرٍ مِما كنتَ عليه عندما رأيتُك آخِر مَرة. ما هو السر؟
لَم يُبدِ الطاهر أكثرَ من ابتسامة خجولة ردًا على ذلك، لكن القاضي قال بِنَبرة ساخرة:
- السِّرُّ هو أنه كادَ يَقع في حُب امرأةٍ لم يَعرف جمالَها الشعراءُ بعدُ!
ذهبَ تَفكيرُ الطاهر على الفَور إلى شامة، لكنه لم يستطع فَهمَ ما قَصَده القاضي. فوجدَ نفسه يَنظر إلى ابنِ القاضي، الذي كان بدَورِهِ يَنظرُ إليه بذُهول.
قال القاضي فجأة، وهو يدفع الطاهر إلى الكلام:
- تكلم! أخبِره أين كنتَ وماذا رأيتَ ومَن رأيتَ!
كان الطاهر في حَيرة من أمرِه. نظر إليه ابنُ القاضي منتظرًا جواباً على أحَرِّ من الجَمر. قال ابن القاضي وقد نَفَذ صبرُه: أين؟
أجاب الطاهر بصوتٍ خفيض، مُتسائلاً عن سبب رغبة ابن القاضي في سماع أخباره بهذه اللهفة:
- في عبْدة.
قال القاضي وهو يَعبِسُ في وجهِ ابنه
دَعِ الرجلَ يأكل بسلام! سيُخبرك المزيد عندما تلتقيان في الخارج. لَن تتغير أبدًا! ستَظَل مَهووسًا دائمًا بالجَمال - وكأنَّ المظهرَ هو كل شيء في هذا العالم! يا لَخَيبة أَملي فيك!
حاولَ الطاهرُ تغييرَ الموضوع، فقال بِتردُّد:
- سيدي القاضي، أَوَدُّ أن أَزور الزاهية في منزل أبيها لأُسلِّمَها الفساتين.
قال القاضي بإيجاز:
- حسنًا.
فقال الطاهر بِحَذر:
- أنت تعلم، سيدي القاضي، أنه سيتعَيَّنُ علينا عُبور القنطرة. لذا أعتقدُ أنه سيتعَين عليَّ القُدومُ إلى هنا أولاً.
قال القاضي بِلا مبالاة:
- نعم.
 
في ظُهرِ اليوم التالي، كان القاضي رجلاً آخر. كان وجههُ مُشرِقًا. كان الطاهر أيضًا مبتسمًا. بِالكاد استطاع أن يُصَدِّق عينَيه عندما جلست الزاهية أمامه. بجانبها كان والدُها يرتدي جلبابًا بُنيًا. أمّا القاضي، الذي كان يَجلس على يَمين الطاهر، فَلم يَذَّخِرْ أي كلمات طَيبة لتَقديمهه كأفضلِ عريسٍ في الدنيا. ثم جاء دَور الطاهر ليَقولَ ما عنده. تحدثَ إلى الزاهية مباشرة. أراها الأشياء التي أحضرَها لها من البلاد التي التقى فيها بالأمير.
قال:
هذه سَبعُ لَبساتٍ جميلة. هذه منصورية من الحرير تُلبَس فوق قميص موسلين بيج. هذه منصورية من التَّفتا تُلبَس فوق قميص موسلين أبيض. هذا قميص من السَّاتان الذهبي يُلبَس تحت تحتِيَّة من الدانتيل الذهبي مُطَرزة بالورود. وهذا قميص آخر. إنه قميص من الشَّاش الأزرق يُلبَس تحت دْفينة من التَّفتا. وهذه گندورة من المخمل الأرجواني مُطَرزة بالكامل بخيوط ذهبية. هذه هي مْليفة سلهام سْفيفة وبَرشمان على طراز. وهذا خاص بنساء البلدة. إنه جَبادور حريري وسروال مع حِزام يُلبَس تحت دْفينة من الشاش. وهذه ثلاثُ مْضَمات. وهذا الشيء الذي تَرَينَه هنا هو بُرنُس. رأيتُ زوجةَ الأمير ترتدي واحدًا مثله. ارتَدَته على رأسها هكذا. وهاتان قِلادتان. أتمنى أن تُعجِبك!

تمنى الطاهر لَو كان بإمكانه أن يظلَّ في هذا الوضع وهو يتحدثُ بحالِمية وينظرُ إلى عينَي الزاهية الزرقاوين ووجهِها المُتوهج، لكن لم يَتبق له شيء ليقوله. لقد وصَف كل الأشياء التي أحضرَها معه. ويبدو أن والدَ الزاهية كان ينتظر انتهاءَ حديثه. قال وهو ينظر مرة إلى الطاهر ثم إلى القاضي:
- هل هذا مهر ابنتي؟
قال القاضي وهو ينظر إلى الطاهر:
- هذه هديةُ الأمير، على ما أعتقد؟
قال الطاهر مُتسائلاً عما يُمكن أن يُضيفَه:
- نعم، إنها كذلك.
فقال القاضي:
- لقد أتَينا اليومَ لِنُظهر لك اهتمامنا بابنَتك. (نظَرَت الزاهية إلى أسفل بينما استمَر القاضي في حديثه:) الطاهر يَرغب في الزواج من الزاهية. أَعلم أن والديه هما مَن يجب أن يكونا هنا اليوم ليقولا لك هذا. لكنني مُتأكد من أنهما سيفعلان ذلك يومًا ما. أنا لا أتحدث نيابةً عنهما. أنا أتحدث نيابةً عن الطاهر. وكما قلتُ قبلَ اليوم وأُكرر الآن، الطاهر يَرغب حقًا في الزواج من ابنتك. فهل تقبلُ تزويجَه ابنتَك؟
خفَق قلب الطاهر عندما سمِع هذه الكلمات.
قال والد الزاهية:
- سأُزَوج ابنتي لرجلٍ أعتقد أنه سيَجعلها سعيدة. لقد رفضتُ العديدَ من الرجال الذين تَقدموا لخطبتها. ولكنني أثِق بك يا قاضي. وأعلمُ أنك شخص مُمَيز للغاية بالنسبة لابنتي. لذا سأضع ذلك في الحسبان.
تمنى الطاهر أن يتكلم. تمنى أن يقول لوالد الزاهية، قل نعم أو لا، لا تتردد! ولكن الغريب أن هذه الإجابة المراوغة حولت الزاهية فجأة إلى شيء ثمين للغاية، شيء لا يقدر بثمن، شيء يستحق أن يضحي المرء بحياته من أجله. أصبحت عيناها الزرقاوان أكبر من البحر، ووجهها الجميل أكثر إشراقًا من أشعة الشمس، وابتسامتها أكثر بريقًا من الذهب. في غمضة عين تحولت إلى أميرة!
وكان الأمر مُؤلمًا عندما رآها تنهض فجأة وتَخرُج من الغرفة. ثم تحولت الغرفة إلى فُرن. لم يَعُد الطاهر قادرًا على البقاء هناك. فَتمتم وهو ينظر إلى القاضي: أعتقد أننا بَقينا بما فيه الكفاية.

 

 


  •                                                                  الفصل السابع
  •                                                                   الفصل الثامن

النسخة   الإنجليزية


THE TAILOR OF MOGADOR



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire