النسخة الإنجليزية
THE TAILOR OF MOGADOR
الفصل الخامس
وصل الطاهر إلى المكان. كانت الخيول هناك بالفعل. بين الحين والآخر كانت البنادق تُطلِق النار في الهواء. بحث الطاهر عن شامة، لكن بِالكاد يُمكنك رؤيتها مع وجود الكثير من الناس حَول الحقل. ألقى الناس نظراتِ استفهام على الطاهر، الذي استمرَّ في التحَرُّك حَول الحقل. صادف بلعيد في طريقه لكنه تظاهر بأنه لم يتعرَّف عليه. ثم فجأة صاح صوتُ امرأة: "الخياط! إنه الخياط!" والغريب أن مجموعة من النساء انفصَلن عن الحشد حيث كان يقف بلعيد، الرجل العجوز.
وَسُرعان ما وقفت شامة أمام الطاهر، مُبتسِمةً ابتسامةً تسحَر القلوب. قالت: ماذا تفعل هنا؟
وقالت أخرى:
- أين سيِّدك؟
فأجاب الطاهر مبتسمًاً:
- ليس لدي سَيد . أنا سيِّدُ نفسي. أنا لستُ عبدًا!
قالت شامة وقد تجعَّد وجهُها باحتجاجها:
- لكنك لا تزال تعمل عِنده!
- هذا صحيح.
شعُر الطاهر بشيء غريب في نَفَس شامة. كان بإمكانِه أن يَشم رائحة النبيذ في نفَسها، لكن لا شيء على وجهها يوحي بأنها كانت في حالة سُكر. في تلك اللحظة، اقترب الرجل العجوز من شامة. التفتَتْ نحوَه دون أن تقولَ شيئا. أما الطاهر فقد أدار عينَيه بعيدًا عنهما وخطا خُطوات باتِّجاه الحشد. تجمَّعت النساء حوله وهو يَمشي بِتُؤَدة. قالت إحدى النساء: هل انتهيت من فستاني؟
- لا، أنا آسف. في الواقع، لقد بدأتُه للتِّو. كنتُ أشتغل على تكشيطتَي زوجة سي بلعيد ووالدته. لذلك كان على فستانِك أن يَنتظر.
قالت المرأة، وهي ترفع صوتَها فوق ضجيج الحشد:
- الآن وقد بدأت العمل على فستاني، متى يمكنني الحصول عليه؟
قالت امرأة أخرى قَبل أن يتمكن الطاهر من التحدث:
- ما الأمر، شامة؟
قالت شامة بغضب: لا أعرف! ذاك الرجل العجوز الذي يمشي هناك يُلاحق خطواتي. لا أعرف ماذا يريد مني!
ابتسمت إحدى النساء وقالت:
- رُبما وقع في حُبك! ارجعي وتحدثي معه! أو أقول لكن شيئا، لِنَذهبْ جميعًا ولْنَسحَبه من ساقه!
ضَغط الطاهر على لسانه حتى لا يتكلم، لكن في الأخير قال في نَفَسٍ واحد:
- اترُكنَ الرجل العجوز وشأنه!
قالت شامة فجأة:
- هل تعرفه؟
فقال الطاهر وهو يبتعد عنها
- لا، لا أعرفه!
قالت النساء الأخريات:
- إلى أين أنتَ ذاهِبٌ؟
قال بصوت متردد:
- سأنتقِل إلى مُقدمة الحشد حتى أتمكن من الرؤية جيدًا.
- لماذا لا تبقى معنا؟ يُمكنك الرؤية جيدًا من هنا أيضًا؟
لم يَرُدَّ الطاهر عليهن سوى بابتسامة خجولة. سار ببُطء إلى حيث كان يقف الرجل العجوز. همس له هذا الأخير دون أن يلحظَه أحد: ابقَ هناك! وظلَّ الطاهر هناك، في مؤخرة الحشد مُتظاهِراً وكأنه يُشاهد عرض التبوريدة. انتظر أوامر جديدة من الرجل العجوز الذي كان يقف على بُعد أمتار واحدة خلفَه. ثم جاء أمرٌ جديد. همَس الرجل العجوز بصوت مكتوم: ابتعِد الآن! استمِرَّ في التجوُّل حول الحقل.
وهكذا استمر الطاهر في التجول حول الحقل حتى رأى مجموعة من النساء يصرُخن بشدة ويركُضن وراء الرجل العجوز، الذي هرب بِدورِه عَبر الحقل المُجاور. عِند ذلك شعُر الطاهر أنه لم يَعد لديه ما يفعله هناك. فَتسلل ببساطة خارج المكان.
في طريق عودته إلى الدوار، لَقيَ الطاهر سْعيد، الرجلَ الذي أحضره من الشياظمة.
قال سْعيد، مُتظاهرًا بالدهشة:
- أين كنت؟
- ذهبتُ لرؤيةِ عرض التبوريدة.
- ذهبتَ وحدكَ؟ أين سّي بلعيد؟
- لا أعرف.
- هذه كِذبة! أنت تعرفُ أين هو.
رَفَض الطاهرُ قَولَ المزيد. ظل صامتًا بينما بدأ سُعيد في سَرد قصة. قال: سأُخبرك أين كنتَ ولماذا كنت هناك! كنتَ هناك لأن بلعيد كان هناك وشامة كانت هناك. بلعيد يستخدمُك كَقواد وتستخدمُك شامة كوسيلة لإِخماد تَعَطُّشِها للانتقام. هل تعلم لماذا؟ حسنًا، لقد بدأ الأمر منذ فترة طويلة. التقى بلعيد وشامة في حفلة. تحدثا عن الزواج في نفس اليوم الذي التقيا فيه. لم يستطِع بلعيد أن يُصَدق أذنيه عندما قالت نعم. طلبت منه مهرًا كبيرا ووَعَدها بتلبِية كل طلباتها. لكنها رفضت الخروج معه. لقد فعل بلعيد كل ما بِوسعه لجعلها تنام معه حتى قبل الزواج، لأنه ببساطة لم يكن يعتقد أنه يستطيع الزواج منها، بالنظر إلى نوع المهر الذي وعدها به. انتظرت شامة وطال انتظارُها، لكن بلعيد لم يستطع الوفاء بوعده. لذا تزوجت شامة المسكينة من ابن عمها على سبيل التعويض. لكن هذا الزواج سرعان ما انتهى بالطلاق. تزوج زوجُها السابق مرة أخرى على سبيل التعويض أيضًا. لكن شامة بقِيت بلا زواج. وهذا ما دفع بلعيد لمُلاحقتِها مرة أخرى. زوجته تعرف القصة، لكنها لا تستطيع أو لا تريد منعَه. إنها تعلم أنه لن يتمكن أبدًا من جعل شامة تتزوجه. وزوجته أيضًا سعيدةٌ إلى حد ما بِرؤية شامة تُعامله بقَسوة. لأنها كانت هي أيضًا ضحية. تزوجها بلعيد فقط بعد أن علِمت عائلته أنه تسبَّب في حَملِها. كانت خليلَته لسنوات ولم تُنكِر عليه أي شيء ولَم تَرفض له طلبا أبدا. لكنه كان ينظر إليها دائمًا على أنها مُجَرد عشيقة. ولم تكن أيُّ أنثى آمِنةً أبدًا مع هذا الوحش. يُطِلق عليه الناس لقَب "الديك". هل تعلم لماذا؟ لأنه مثل الديك في حظيرة الدجاج. حتى إنه تجرأ على مُعاكَسة أختي! لن أُسامحه على ذلك أبدًا. أرى أنك لا تتحدث. أرى أنك لا تسألُني أسئلة. لكن سأُخبرك لماذا ذهبتُ للبحث عنكَ في الشياظمة. كنتُ أعلم أن بلعيد لديه خطة أو أخرى في رأسه، وكنتُ أعلم أنه سيدفع لي ثَمن أي شيء فعلته من أجله، لكنه لن يحصل على ما يريده أبدًا. شامة، التي أصيبت بصدمة شديدة لدرجة أنها صارت تشرب الخمر أحياناً، لن تَترُكَه حتى تقضيَ عليه. أقول لك هذا لأنني لا أُريدك أن تلومَني. أعلم أنه لا يُسيءُ مُعاملتَك. لكن كن صبورًا. سيُنقذك الله من هذا الوحش. يُمكنك الذهاب الآن. ولا تَكذب على سَيدك! قل إنك قابلتَني في الطريق. لا تقلَق! اذهب!
دخل الطاهر في حَيرة من أمره. قالت له نفسه: اهرب! ثم عادت فقالت: لا ! عُد إلى الدوار ثم فكر في هذا الأمر.
فركض الطاهر عائداً إلى الدوار. كان بلعيد يَنتظره في الفناء.
- أين كنت أيها العبد الغادر؟
- أنا آسف، نعمس! كنت عائداً إلى الدوار ولكنني قابلتُ سْعيد في الطريق.
- ولماذا بقيتَ هناك تتحدث مع سْعيد؟ ماذا كنتُما تقولان لبعضِكما البعض؟
- لا شيء، نعمس.
- وفوق ذلك تَكذب عليّ، أيها الحمار؟
قالها بلعيد وهو يصرخ ويضرب الطاهر في وجهه. مرَّر الطاهر يدَه على خدِّه المُحترِق. بصَق بلعيد عليه واستدار ليذهب.
خرج بلعيد من الفناء. حَبس الطاهر دموعه في عينيه وقال في نفسه: تَبصِقُ عليَّ، أيها الخنفساء القذرة؟ هل هذا جزائي؟
بعد ساعة، كان الطاهر مُمَدَّدا على سريره، يُفكر. فَكَّر بِحُزن: لقد ساعدتُه مرتين، ، أولا بالفستان، ثم بالتَّمويه، ولَم أَجْنِ مُقابلَ ذلك سوى بَصقٍ في وجهي! هكذا رَدَّ على مَعروفي. لقد وصفَني بالخائن. سأكون خائنًا حَقّاً! لا يُمكنني كَبْح جِماح نفسي هذه المرة. كان بإمكاني أن أَرُد عليه تحت الاستفزاز. الحمد لله أنني لم أفعل ذلك! لكنه لن يستفِزَّني بعد اليوم. بما أنه يُريد الحرب، فسوف يحصل على الحرب. لكن في قِتاله لن ألجأ إلى قوة البندقية. سأستخدم قوة الحب وقوة الفكر.
في صباح اليوم التالي، كان الطاهر يَعمل مرة أخرى على فستان إحدى رفيقات شامة. كان مبتسما. وكان الصبي ينظر إليه بعينين مفتوحتين لكن لا تَرَيانِ شيئا مما يدور في خَلَد الطاهر.
ولكن في كل ليلة بعد ذلك كان الطاهر يُفكر مرارا وتكرارا في أفضل طريقة للانتقام لنفسه. وفي إحدى الليالي، تمتم لنفسه: سأكون هناك قريبا، آ الزاهية! أريد فقط أن أعود سالما مُعافى. لا أريد أن أَقتل أحدا، ولا أريد أن أُقتَل.
وفي صباح أحدَ الأيام، كان الطاهر خارجا لقضاء حاجته عندما نادى عليه سْعيد من الجانب الآخر من الفناء:
- السلام عليكم! إلى أين أنت ذاهب؟
- أنا ذاهبٌ إلى تَلة الروث. لماذا؟
وما كاد الطاهر يَصل إلى تلة الروث حتى انضم إليه سْعيد. حدَّق الطاهر في دهشة بينما قال سْعيد بصوت خافت:
- آ الطاهر، هذا يومُك! الآن أو أبدا! يقضي أميرٌ وزوجتُه الليلَّ في هذه الأرض. ستأخذُك شامة إلى زوجة الأمير.
تنَهد الطاهر وقال مُستَغرِبا:
- لكن أين سأجد شامة؟
- حسنا!
- لا تُجادِلني! افْعَل ما أقوله لك! عند الظهر ستجد حمارَ عمي صالح يَتجول هنا. ستجدُه مُقيَّدًا ومُكَمَّمًا. فُكَّ قَيدَه دون أن تنظرَ إلى الوراء واركبْ إلى المكان الذي التقينا فيه أنا وأنت، بَين الكَرم وبُستان التين. ستكون شامة في انتظارك هناك. وستأخذُك إلى زوجة الأمير، أتسمعني؟
- ماذا عن بلعيد ؟
- قلتُ لا تُجادل! لا تهتم بِبَلعيد. سأتصدى له! وداعاً!
قضَى الطاهر حاجتَه واغتسَل. ثم عاد إلى عمله. وفي الظهيرة ذهب الصبي إلى منزل القايد لتناوُل الطعام وإحضار غداء الطاهر، كالمُعتاد. ولم يتخل عُمال الفناء المعتادون عن عادتهم في التجمع في زاوية مظلَّلة من الفناء للدردَشة أثناء الغداء. فَكر الطاهر بقلبٍ ينبض بسرعة: الآن أو أبدًا! عمي صالح في الفناء. أستطيع سماعَ ضَحكه. اخرُج الآن! ماذا تنتظر؟ سيَعتقدون أنك ستَخرج إلى تلة الرَّوث.
وأخذ الطاهرُ حياته بِكلتا يديه وخرج من الغرفة، ثم من الفناء، ثم إلى تلة الرَّوث. فَكَّ قُيودَ حمار عمي صالح، وركبه وانطلق بعيدًا، دون أن ينظر إلى الوراء. حَثثَّ الحمارَ على الجَري، ودَعا الله مِن كُلِّ قلبه، حتى وصل إلى المكان الذي كانت تنتظره فيه شامة، مُرتديةً حايكاً أبيض. قالت: الآن أَسرِع! ليس لنا لحظة نُضَيعها. اترُك هذا الحمار لِحاله: سيعود إلى المنزل دون مساعدة. الآن اركبْ هذا البغل! سأجلِس خلفَك. أمسِك هذه الحزمة! رائع! انتظر لحظة!
قَفزَت شامة على السرج واتكأت على ظَهر الطاهر ولَفَّت ذراعيها حول بطنه، وقالت، الآن أَنزِل غِطاءَ رأسك وحُثَّ البغل على الإسراع! لا تَخف! كل شيء سيكون على ما يُرام، إن شاء الله!
كان الطاهر وكأنه في حُلم: شامة (!) جالسة خلفه مباشرة، لافَّةً ذراعيها حوله، وتَهمس في أذنه، "فقط مسافة قصيرة! تَشَجع! لقد اقتربنا!
توقفا عند بئرٍ على مسافة قصيرة من المقبرة. قالت شامة بهدوء: لنَنزِل هُنا، آ الطاهر! لن يأتي أحدٌ في طريقنا.
وهكذا نزَلا. وقالت شامة: احضِر لي بعضَ الماء. وبينما أدلى الطاهر الدَّلو في البئر، قالت شامة:
- لقد راهنْتُ على أنك ستأتي لأنني كنتُ أعلم أنك متأكدٌ من أنك لن تكسب شيئًا من العمل مع ذلك المجنون اللئيم. أعلمُ أنه لم يكن لطيفًا معك، لِذا فهذه فرصتُك للانتقام لنفسك. أَعلَم أنك أتيتَ بهدف في مُخَيِّلتك، لكن دعْني أقول إنك إذا لم تَنتهِز الفرصة فسوف تندمُ عليها بَقِيَّةَ حياتك. هذه فرصتك لإثبات رُجولتك. لا تكن من أشباه الرجال! لا تَخف من بلعيد! سْعيد سيتعامل معه. عندما تُقابلُ الأميرةَ اليوم أَظهِر لها أنك رجل شجاع. فقط تَحَدثْ بهدوء وستَشُقُّ طريقَك إلى قلب الأميرة، أؤكد لك ذلك!
قال الطاهر، وقد كان يستمع باهتمام:
- ها هو الماء!
- شكرًا لك!
وضعت شامة الحزمة على جدار البئر وملأَت فيها بالماء، ثم قالت: هل كنتَ تستمع إلي؟
- بالطبع!
- حسنًا، لقد تقطَّع قلبي وأنا أراك خادما - بَل عبدًا! - في دوار ذلك الرجل. لقد غضبتُ. رجلٌ مثلُك يجب أن يكون في قصر، وليس في دوار. الآن هذه فرصتُك! إذا قالت الأميرة إنها تريدُك أن تذهب معها، فقُل نعم. لا تتردد!
- لكن مَنْ قال لكِ أنها ستطلب مني أن أذهب معها أو أعمل لديها؟ إلى أين أذهب إذن؟ سيَقتلني بلعيد بالتأكيد!
- اترك هذا لنا! نحن النساء نعرف كيف نتعامل مع بعضنا البعض.
- حسنًا! سأُحاوِل.
- أتمنى لكَ كل التوفيق، الطاهر. لكن الآن خُذ هذه الحزمة واذهبْ وغَيِّر ملابسَك خَلْف ذلك الجدار. لقد أحضرتُ لك تْشاميراً وجلبابًا ونعالاً. خُذ وقتَك! ليس لديك ما تخشاه هنا.
قال الطاهر عند عودته:
- كيف أبدو الآن يا شامة؟
- تبدو رائعًا آ الطاهر! لكن الآن اركب!
وهكذا ركِب الاثنان البغلَ مرة أخرى وتوجَّها إلى تَلة مُغَطاةٍ بأشجار وتُطل على منزل كبير به حديقة مُسَوَّرة. عند بابها الأمامي وقف حُراس يَرتدون الزي الرسمي. قالت شامة، وهي تنزل أولاً: يجب أن أتركَك هنا. انزِل!
وعندما نزل الطاهر، قالت شامة:
- ابقَ هنا! لا تتحرك من هنا حتى ترى امرأةً تُلَوح لك بيدها من الباب الأمامي لذلك المنزل. حظًا سعيدًا لك!
بدت تلك الكلماتُ الآن وكأنها كلماتٌ مُهدِّئة قيلَت لرجل يُصارِع سكَرات الموت. سارع الطاهر لتذكير نفسه: لكن هذا يومي، كما يُقال. ليس لديَّ مكان أذهب إليه إذا لم أذهب مع الأميرة..
استمَرَّ الطاهر في تثبيت نفسه بينما كان قلبُه يرتجف مع كل نهيق أو صهيل يَطرق أذنيه، أو مع كل خطوة يخطوها أحد الحراس بعيدًا عن المنزل. ثُم فجأة لوحت له امرأة ترتدي حايكاً أبيض من حيث كان الحراس يقفون. ثم نزَل إلى أسفل التلِّ ومشى نحو المنزل مِثلَ جندي شجاع. وبينما كان يمشي، رأى المرأةَ ذاتَ الحايك الأبيض تتحدث إلى أحد الحراس. تساءل الطاهر عمَّا يجب أن يقولَه لهم إذا أوقفوه. لكن الحراس لم يقولوا شيئًا. لقد أفسحوا له الطريق بينما كان يمشي دون أي علامة على الخوف على وجهه. استقبلته المرأة ذات الحايك الأبيض عند عتَبة الباب وأدخلته إلى المنزل.
قالت عندما وصلا إلى باب أزرق كبير: انتظر لحظة! ثم فَتحَت الباب. هَرعت امرأةٌ أخرى إليها. تحدثت الاثنتان بصوت هامِس. ثم اختفتا خلف الباب. وبَعد قليل، ظهرت المرأة ذات الحايك الأبيض وطلبت من الطاهر الدخول. وقادته إلى غرفة كبيرة في الطابق العُلوي، حيث كانت الأميرةُ جالسةً على أريكة خضراء جميلة، مُحاطةً بعشرات النساء.
قالت الأميرة وهي تُدير بصَرها على وجه الطاهر:
- من سمَح لِزيرِ النساء هذا بالدخول؟
قالت شامة التي بَدت مُدهشة في الفستان الذي صنَعه لها الطاهر:
- إنه ليس بِزيرِ نساء، يا لالّة. إنه الخياط!
قالت امرأة أخرى بابتسامة وأدب:
- نعم، لالّة! . هذا هو الخياط الذي صنَع فستان شامة.
فسألت الأميرةُ وهي تتطلعُ مرة أخرى إلى وجه الطاهر:
- ما اسمُك؟
- أنا خادمكِ الطاهر بن أحمد الرگراگي، لالّة.
- هل أنتَ رگراگي ؟
- نعم، لالة.
- من أين أنت؟
- أنا من الشياظمة ، لالة. من قرية على واد تانسيفت.
- ماذا تفعل هنا إذن؟
- لقد استأجرَني ابنُ قائد قبيلة عبدة ، لالة.
- ماذا تفعل له؟
- أصنعُ فساتينَ نسائية لعائلته، لالة.
- لكن شامة ليست قريبةً له، أليس كذلك؟ فلماذا صنعتَ لها هذا الفستان؟
- لقد صنعتُه فقط بِطلبٍ من ابن القايد، لالة. لم يَكن لدي أي فكرة لِمَن كان الفستان، لالة.
كم يَدفع لك؟
- بصراحة، لالة ، أنا غيرُ راضٍ عن أَجري. لا أستطيع أن أُخبركِ، لالة. إنه أجر هزيلٌ.
- لماذا لَمْ تذهبْ للعمل في مكان آخر؟
- تَمَنَّيت لَو كان بإمكاني ذلك، لالة. ولكن لأسبابَ لا أعرفها، مَنَعني ابن القايد من مغادرة هذه الأراضي.
- هل ستذهب معي إذن؟
- بكل سرور، لالة.
- لكن لدَي خياطون خاصّون بي! هل تَعلم؟ علاوة على ذلك، أنت رجل وسيم بشكل خطير. يمكنك بسهولة إثارة المشاكل في قصري.
- أنا في خِدمتكِ على أية حال، لالة.
- هذا لطفُ منك! الآن يمكنك المغادرة. شكرًا لك.
انحنى الطاهر إجلالاً للأميرة وخرج من المنزل. لم يَهرعْ أحد ليُخرِجه. رأى الحراسُ أنه خرج بوجه مختلف، لكن لَم ينطق أي منهم بكلمة. رفع الطاهر عينيه وانطلق نحو أقرب بستان زيتون. فكَّر وهو جالسٌ تحت شجرة زيتون:
ما يَزالُ النهار طويلاً. ماذا عليَّ أن أفعل الآن؟ إلى أين أذهب؟ هل يُمكنني؟ لقد خذَلتني شامة. لقد نَصَبت هي و سْعيد فَخّاً لي. لكن هذا خطئي. أنا مَن استمعَ إليهما. لا! هذا ما كان يجب أن أفعلَه. هل كنتُ سعيدًا هناك؟ بالطبع لا. هذه هي المرة الأولى التي أستطيع فيها الهروب. لكن كان بإمكانكَ الهروب في ذلك اليوم عندما كُنتَ في الوادي، أليس كذلك؟ الأمرُ سِيان! يجب عليَّ الآن أن أبحث عن مكان للاختباء حتى حلول الليل، ثم أهرب تحت عَباءة الظلام.
وهكذا اختبأ في بئر مهجورة حتى لَم يَعُد يسمع أيَّ نهيق أو صوتَ غراب حوله، ثم نهضَ وواصلَ طريقه عائداً إلى منزل والِده، مُسترشِداً بالقمر. طلع عليه النهار وهو لا يزال يمشي ببُطء في طريقه إلى الشياظمة. لكن الشياظمة كانت لا تزال بعيدةً كُلَّ البُعد عندما اعترضت طريقه مجموعة من خمسة رجال على ظهور الخيل. أُصيب الطاهر بالذهول عندما رأى بينهم سْعيد و عمي صالح.
قال أحد الرجال وهو يَصفع الطاهر على وجهه: إلى أَين كُنتَ ذاهباً أيها الفَتى الأنيق؟
لَم يَعُد لدى الطاهر القدرة على الكلام.
حتى عندما أُعيد إلى الدوار عند حلول الليل، لم يستطع فَتح فمِه للتحدث. نَظر إليه بلعيد بعيونِ قاتلٍ بدمٍ باردٍ. قال بهدوء: ألا تريد أن تتكلم؟. حسنًا!
سأل أحدُ رجال بلعيد وهو يُلَوح بِسوطه:
- هل نُرسِله إلى قَبره؟
قال بلعيد بنفس الصوت الهادئ:
- لا . سيكون هذا رحيماً به للغاية! إنه لا يَستحق حتى أن يُدفَن حيّاً. سأُعاقبه بالعقاب المناسب، وسأجعله يتكلم! خذوه إلى حظيرة الأبقار! واتركوه هناك.
كان الطاهر على وشك البكاء. لكنه تَرك نفسَه يُحمَل إلى حظيرة الأبقار. ألقاه رجال بلعيد داخل الحظيرة وأغلقوا الباب خلفه. كانت الماشية تَخور وتتحرك في كل اتجاه..
الطاهر، الذي بِالكاد كان يستطيعُ التَّنفُّسَ بسبب رائحة الرَّوث الكريهة، نهضَ بسرعة وشقَّ طريقه نحو الحائط حَتى لا تدوسه الماشية أو تنطحه. لم يكن الطاهر يَشُك في أن بلعيد قد وضعه هناك لأنه أرادهُ أن يموت جوعاً. فجأة صاح الطاهر: أعرف ذلك!
لكنه لم يستطع قولَ المزيد لِما بلَغَ به الإنهاك أمام هول الصدمة.
في الصباح الباكر، جاء الرُّعاةُ وأخرَجوا الماشيةَ وأغلقوا البابَ من الخارج. ثم سار الطاهر بخطواتٍ مُتَعثِّرة إلى النافذة الصغيرة التي في مُؤخرة الحظيرة. وظل واقفا هناك لِبضع لحظات، يُصارع الذبابَ، ثم استدار ومَشى إلى الأمام وسط الضَّباب الناجِم عن الغبار الذي يَحرق الحلْق. ثُم طرَق الباب، وصرخَ: تُريدونني أن أموت جوعاً؟ لا أتَعجب من ذلك! هذا ما تفعلونه أيها الحكام. أنتم الحكام الأنانيون أُناس قُساة القلب! أنتم لا تَهتَمون إلا بأنفسكم! تبّاً لكم! تبّاً للحُكام! اللعنة على شامة! اللعنة على سْعيد! اللعنة على صالح!
لكن سُرعانَ ما أصبح صوتُ الطاهر أجشًّا من الصُّراخ.
لَم يُمضِ ليلةً أخرى مع الماشية حتى جاء رجُلان أسودان لإنقاذِه. وَجَداه مُستلقيًا على الأرض مُلامِساً الجدار الخلفي لِحظيرة الأبقار. أعطيَاه الماء وقالا له كلمات لطيفة، وساعَداه على الخروج من الحظيرة. ثم أغمضَ عينيه لمّا باغتته أشعة الشمس ولمّا ألقى نظرةً على جلبابه رٱهُ أخضر منِ أثَرِ الرَّوث. قال: أنا آسف. أجابه الرجُلان الأسودان بِمرح: لا تقلَق! كل هذا سيصبح قريبًا ذكريات بعيدة. الآن تعال معنا !
بعد ساعة، كان الطاهر أَنظَفَ وأبْهى بشكل لا يُقارَن مِمّا كان عليه عندما تَم إدخالُه على الأميرة. قال له الرجلان الأسودان: الأميرُ يُريد رؤيَتك. إهو الذي أرسلَنا إليك. لكن ما زاد رَدُّ الطاهر على ابتسامة صغيرة. لم يُظهِر أي علامة على البهجة حتى عندما جعلَه الرجلان الأسودان يَمتطي حصانًا ذَهبيًا وقاداه عبر البادية إلى منزل فخم كبير في قلب المدينة. أخذوه إلى غرفة هناك وأعطَوه بعض العِطر، ثم غادروا. تساءل الطاهر عما سيقوله للأمير إذا ذكَر له اللعنات التي كانت تتدفق على لسانه وهو في السجن. فكَّر وأطال التفكيرَ ولكنه لم يَجد طريقة تُنجيهِ من هذا المأزق إذا ما أشارَ الأمير إلى هذا الأمر.
وَقف الطاهرُ أمامَ الأميرِ وقلبُه يَخفِقُ من شِدة الخوف. قال له الأمير على الفَور:
- أَخبِرني بقصتِك. وإذا ما كَذَبْتَ عليَّ فسأُعيدك إلى ابن القايد. .
أرسَل التهديدُ قُشَعريرة في عَمود الطاهر الفِقري، فقام منتصباً وقال بصوت متردد:
حسناً، نعمس، كنتُ واحداً من خمسة شُبان وقعوا في حُب فتاة تعيش في القرية المقابلة لنا. اعتدنا أن نلتقي بتلك الفتاة كل يوم أربعاء عندما كان الوادي الذي يفصل بين قريتَيْنا سالكاً. ولكن مع اقترابِ موسم الزَّفاف هدَّد والدُ الفتاة بتزويجها لرجل من اختياره إذا لم نَحُلَّ مُشكلتنا نحن الخمسة فيما بيننا. ولكي نتجنبَ القتالَ اتفقنا نحن الخمسة على ترك الأمر لقاضي بلدتِنا لِيَحكُمَ فيما بينَنا. فَحَكَم القاضي بأن يُزَوِّج المرأةَ لِمن يُشبِهها أكثر في الخير أو الشر. ولكن للأسف تَبيَّن أنني "رجل صالح"، الأمرُ الذي جعل القاضي يَستبعدني في الجولة الأولى من اختباره لنا. وكَمُواساةٍ لي عَرَضَ عليَّ القاضي أن يُعَرِّفَني على فتاة أخرى من نفس القرية، وقال إنها تستحق أن تكون زوجتي. ولكن القاضي رفض أن يُخبرني بأي شيء عن المرأة، ولا حتى اسمَها. وقال لي: تعالَ إلى هذه الشجرة وأَنشِد أغاني دينية وسوف تَظهر حبيبتُك.
كنتُ بارعاً في الغناء؛ كنتُ أُجيدُ العزفَ على آلة الأوتار، ولكن لم تكن لدي أية أُغنية دينية في رأسي. فأَرسَلني القاضي إلى رَجل يَملك مكتبةً في ساحة جامع الفنا في مراكش. علَّمني ذلك الرجل بضعة أغاني، فَعُدت إلى القرية وغنَّيت الأغاني الدينية، وظهَرَت الفتاة، لكنني لَم أرَها إلا من بعيد..
ذهبتُ إلى القاضي وطلبتُ منه أن يُخبرني المزيد عن المرأة. فقال القاضي: لا أستطيع أن أخبركَ بأي شيء الآن، لكنني سألتقي بك قريبًا لأخبرك بالمزيد. وفي المرة التالية التي قابلت فيها القاضي قال لي: حسنًا، قالت لك حبيبتُك: اصنعْ لي سبعة فساتين حتى أتمكَّن من ارتداء فستان كل يوم من الأسبوع؛ إذا فعلتَ ذلك، فهذا هو مُهري. ولكن لا تُحاول رؤيتي قبل ذلك، لأنك إذا فعلت، فلَن تراني مرة أخرى!
وهكذا ذهبتُ إلى موگادور بِقصد تَعلُّم خياطة الملابس. وفي أول يوم لي هناك ذهبت إلى مسجد بالقرب من السقالة. وبينما كنتُ أُغادر المسجد، اقترب مني شاب وقال لي إنني أخذتُ حذائَه ظنّاً مني أنه حذائي. لِحسن الحظ، سُرعان ما ربطَتني صداقةٌ بذلك الرجل، الذي عَرَّفَني على أحد خياطي موگادور. أَراني الخياطُ الكثيرَ من الفَساتين وأعطاني الكثير من التفاصيل حَول كيفية صُنع تلك الفساتين حتى شعُرت بأنني لن أكون خياطًا جيدًا أبدًا.
ولكن عندما غادرتُ محلَّ الخياطةِ هذا، قال لي صديقي الموگادوري: لا تقلَق يا أخي! وهكذا أخذَني إلى رجل عجوز دعا لي. وفي اليوم التالي وجدتُ نفسي أشتغل على فستاني الأول. اندهشَ الخياط، وهو خياطٌ ماهِرٌ بشهادة جميع من يعرفه.
ولكن عندما عدتُ إلى قريتي بَعد ستة أسابيع، وأَرَيتُ حبيبتي الجديدة الفساتينَ التي صنعتُها لها بيدي، قالت: أنا لَم أكن مُهتَمة بالفساتين. كنت فقط أريد أن ترحل وتبتعد عن هذه البلاد لبعض الوقت. أرَدتُ منك أن تُطهِّر قلبكَ وعقلكَ من زينة.
لِذا عُدتُ إلى مَحلِّ صاحِبي الخياط الماهر في موگادور. لكن الخياطَ الماهرَ سَبَّني، ولم أستطع تحمُّلَ ذلك. فَغادرت موگادور وعُدتُ إلى القرية.
قرَّرتُ أنا وبائعٌ مُتَجوِّل يهودي أن نَعمل معًا. وافق اليهوديُّ على شراء فساتين من صُنْعي وبيعها لزُبنائه. وهكذا أنشَأتُ سقيفةً بالقرب من منزلنا وبدأت أشتغل فيه. وجدتُ مُتدربًا ليُساعدني على العمل.
ولَكن بعد ذلك جاء رجلٌ غريبٌ أخبرني بأنني سأكون أفضلَ حالاً إذا أنا عملت مع ابن أحد القُيّاد في عبدة. ونظرًا لإحباطاتي في ذلك الوقت، لم أتردَّد في الذهاب مع الغريب. ولكن لو كنتُ أعرف ما أعرفه الآن لمَا وافقت على مغادرة القرية حتى لو كان ذلك يعني العيش في فقر مذقع طوال حياتي.
هذه هي قصتي، نعمس.
قال الأمير وهو ينظرُ إلى الرجال الجالسين على الكَراسي على يمينه ويَساره:
رائع! قصتُك حقًا تُلهِبُ الخيال! سأكتبُها وأُرسِلها إلى السلطان. سيستمتع بها بالتأكيد! ستبقى هنا في ٱسفي حتى تُملي قصتَك على كاتِبي. ثم سأسمح لك بالعودة إلى المنزل. الآن يُمكنك الإنصراف.
قَبَّل الطاهر يدَ الأمير وانحنى ثم انسحب، تاركًا الأخير يُعلِّق على القصة لِجُلسائه.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire